[الأمانةَ الأمانةَ في نقل كلامِ الشيخِ الأكبر والكِبريتِ الأحمر]
طلب بعضُهم بيانَ إشكالٍ واحدٍ في كلام الشيخِ الأكبرِ يُعلن بعده تسليمَه ورجوعَه، وتخلِّيَه عن إصراره على موقفه من هذه القضيَّةِ.
هذا الإشكالُ في الفَصِّ المسمَّى «حكمةً قُدُّوسيَّةً في كلمةٍ إدريسيَّةٍ»، وقد استفتحه الشيخُ الأكبرُ ببيانه الفرقَ بين علوِّ المكانِ والمكانةِ، مُظهِرًا في ثنايا ذلك تشرُّفَه بالانتساب إلى الأمَّة المحمَّديَّةِ، عاليةِ المكانةِ رفيعةِ الشَّأنِ، ومُنزِّهًا اللهَ عن علوِّ المكانِ قائلًا: «وأمَّا علوُّ المكانةِ فهو لنا- أعني: المحمديِّين- قال الله تعالى: {واللهُ مَعَكُم} في هذا العلوِّ، وهو يتعالى عن المكان لا المكانةِ» مبالغًا في تنزيهه تعالى قائلًا: «ثم قال تنزيهًا للاشتراك بالمعيَّة: {سَبِّحِ اسمَ رَبِّكَ الأَعلَى} عن هذا الاشتراكِ المعنويِّ».
ثم توغَّل- قدس الله سره- في الحديث عن تجربته الذَّوقيَّةِ، وفلسفتِه العِرفانيَّةِ نحوَ الوجودِ وعلاقتِه بالموجود عمومًا، معرِّجًا على الكلام في الوَحدة والكثرةِ والعَددِ.. إلخ ما هنالك.
تخلَّل هذا الموضوعَ الشَّائقَ الشَّائكَ بعضُ الاصطلاحاتِ، والرُّموزِ والإشاراتِ المُشكِلةِ حينًا، والمستغلَقةِ تارةً؛ فطار البعضُ بما خاله منها كفرًا أو ظاهرًا فيه قائلًا: «يقول ابن عربي عن رب العزة- عز وجل- أعاذنا الله وإياكم: ما نكح إلا نفسه.. ما ثم من يراه غيره... وهو المسمى بأبي سعيد الخراز وغيره من أسماء المحدثات».
وقبل الخوضِ في رفع الوهمِ وإزالةِ اللَّبسِ لا بدَّ من التنبيه على أمرين:
الأوَّلِ: أنَّا لا ندَّعي أنَّ جميع هذا الكلامَ واضحٌ تأويلُه أو قريبٌ مأخذُه، لكنه بالتأمل على كلِّ حالٍ سنرى أنه ليس كفرًا، ويمكن حملُه على محمل حسنٍ ممَّا ينبغي أن يُبذَلَ فيه الجَهدُ لحمل كلامِ أولياءِ اللهِ تعالى عليه.
ثانيًا: التسرُّعُ في حمل الكلامِ على غير مَن هو له، وتعضيةُ الكلامِ وبَترُه من سياقه لغرض مُسبَقٍ- ليس من شِيَم الباحثِ الحقِّ، المنتصبِ للدِّفاع عن عقائد أهلِ السُّنَّةِ.
وبعدُ؛ فإنَّ الشيخَ الأكبرَ بعد تقريرِه الكلامَ في فلسفته العدديَّةِ بيَّن ذلك تطبيقًا على بعض الشواهدِ، ومنها قولُه في حديثه عن آدمَ: «{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}؛ فما نكح سوى نفسه»اهـ وهنا أتركُ للقارئ المبتدئ مهمَّةَ إرجاعِ الضَّميرِ في (نَكَح)!
في موضعٍ قبل ذلك استند الشيخُ الأكبرُ إلى كلامٍ للشيخ الخرَّازِ في بيانٍ لمطلَقِ الكمالِ الإلهيِّ، المتجلِّي في علوِّه الذاتيِّ الحقيقيِّ وجَمعِه للأضداد، فهو الأوَّلُ والآخِرُ والظاهرُ والباطنُ، وهو الوجودُ الحقُّ المطلَقُ «عينُ ما ظَهَر» من المحدَثات باعتبارها من العدم إلى العدم؛ فما ثَمَّ موجودٌ على الحقيقة إلَّا هو، و«ما ثَمَّ مَن يراه غيرُه» حقيقةً، فالكلُّ مَظهرٌ لوجوده الحقيقيِّ وانعكاسٌ لمرآة حقيقتِه المطلَقةِ، وأثرٌ من آثار ذاتِه الأحديَّةِ.
فإذا تحقَّق العارفُ بهذه الحقائقِ فإنَّه لا يشهدُ بقلبه في هذا الوجودِ غيرَ واجبِ الوجودِ، وينظرُ إلى المحدَثات بنظرِه إلى مَجلى الصِّفاتِ الإلهيَّةِ؛ فاللهُ القديمُ الواحدُ بذاته وحقيقتِه الَّتي لا حقيقةَ سواها عنده- «هو المسمَّى أبا سعيدٍ الخرَّازَ وغيرَ ذلك مِن أسماء المحدَثاتِ» على أنَّها آثارُه، وصورُ وانعكاسُ وجودِه الواجبِ.
هذا، ولا يمكنُ أن يؤخَذَ من بعض هذه العباراتِ بحالٍ قولُه بالاتحاد، أو إنكارُه الوجودَ المشاهَدَ للحوادث؛ لأنَّه عبَّر في نفس السِّياقاتِ بما يدلُّ على تسليمه بوجود قديمٍ ومحدَثٍ وخالقٍ ومخلوقٍ، لكنَّ الشيخَ له نظرتُه الذوقيَّةُ الخاصَّةُ للوجود تُفهم بسياقاتها، ويُفهم بعضُ كلامِه بقدر الطاقةِ في ضوء بعضِه الآخَرِ، لا بعزله عن سياقاته ولا بقراءةٍ مفكَّكةٍ لنصوصه، تلك القراءة التي تجعلك ترى أوضحَ الواضحات مِن كلامه أشكلَ المشكلات.
اللهمَّ لا تجعلنا خَصمًا لأوليائك، ووفِّقنا لخدمتهم والذَّبِّ عنهم.. اللهمَّ آمين.
#محمد_المالكي_الأزهري