[الإمامُ الأكبر يُبدِعُ في شرح كلامِ الشيخِ الأكبر]
والحقُّ تعالى- فيما ترمُز إليه عباراتُ الشيخِ [ابن عربي]- أشبَهُ بنقطةِ دائرةِ العالمِ... والعالمُ كلُّه خارجٌ من محيط الدائرةِ، صائرٌ إلى نقطتها... فاللهُ مُنتهى كلﱢ سبيلٍ، وإليه يرجعُ الأمرُ كلُّه.. وفي هذا المستوى من مستويات الكَشفِ الذَّوقيِّ يترنَّمُ ابـنُ عـربيٍّ بقـوله:
أَدِينُ بدينِ الحُبِّ أنَّـى تَوَجَّهَت *** رَكائبُه، فالحبُّ دِيني وإيمـاني
لقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورةٍ *** فمرعًى لغِزْلانٍ ودَيْرٍ لرُهْبانِ
وبيـتٌ لأصنامٍ وكعبةُ طـائفٍ *** وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
وابنُ عربيٍّ هو مكتشِفُ رابطةِ الإيمانِ بين كلِّ المؤمنين بالله- تعالى- مهما اختلفَت عقائدُهم وأديانُهم وملَّتُهم، وقد فهِم قولَه تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] في سياق هذا المعنى الأوسعِ، ومن مستوًى أعمَّ وأشملَ، والمؤمنون عنده أشبهُ بإخوةٍ لأبٍ واحدٍ، هو الإيمانُ بالله- تعالى- حتى لو كانوا من أمَّهاتٍ شتَّى.
وابنُ عربيٍّ في هذه السماحةِ المفتوحةِ على الآخر بلا حدودٍ، إنما يَستلِهمُ روحَ القرآنِ الكريمِ وروحَ الحِكمةِ النبويَّةِ في الإسلام؛ ذلك أنَّ المتصفِّحَ لآيات القرآنِ الكريمِ يجدُ أنَّ عُنوانَ «الإسلام» لا ينطبقُ على الرسالة المحمديَّةِ فقط، في مقابل رسالةِ إبراهيمَ أو رسالةِ موسى أو رسالةِ عيسى- عليهم أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ-، بل يقرأُ بوضوح أنَّ الإسلامَ عنوانٌ على دين واحدٍ فقط، هو الدينُ الإلهيُّ الَّذي بشَّر به أنبياءُ اللهِ ورُسلُه، بدءً من آدمَ وانتهاءً بمحمد صلى الله عليه وسلم .
... ومِن هنا كان جميعُ أبناءِ الرِّسالاتِ الإلهيَّةِ إخوةً ما في ذلك ريبٌ، وقد عبَّر نبيُّ الإسلامِ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم عن هذه الرابطةِ التي تربطُه بإخوته من الأنبياء السابقين عليه، عبَّر عنها بعبارةٍ أخَّاذةٍ يقول فيها: «أنا أَولى النَّاسِ بعيسى ابنِ مريمَ في الدُّنيا والآخرةِ، والأنبياءُ إخوةٌ لعِلَّاتٍ، أُمَّهاتُهم شتَّى ودينُهم واحدٌ».
غيرَ أنَّه ينبغي أن نتنبَّه إلى أنَّ فهمَ ابنِ عربيٍّ لأخوَّة المؤمنين وأخوَّةِ الأديانِ لا يَعني أنه قائلٌ بوَحدة الأديانِ، ما كان منها إلهيًّا وما كان وثنيًّا، أو أنه قائلٌ بها ومعتقِدٌ بمعتقداتها، فهذا ما لم يقصده الشيوخُ وإن رماه به خصومُه، أخذًا من قوله:
عَقَـدَ الخلائقُ في الإله عقائدًا *** وأنا شهدتُّ جميعَ ما اعتقَدوه
فمقصودُه في هذا المقامِ كما يقول: «العارفُ الكاملُ يعرِفُ اللهَ في كلِّ صورةٍ يتجلَّى بها، وفي كلِّ صورةٍ ينزلُ فيها، وغيرُ العارفِ لا يعرفُ إلا صورةَ معتقَدِه، ويُنكرُه إذا تجلَّى له في غيرها»؛ بدليل أنَّه في هذه القضيَّةِ ذاتِها يقـولُ:
قد أَعذَرَ الشَّرعُ الموحِّدَ وحدَه *** والمشركون شقُوا وإنْ عَبَدُوهُ.
الإمام الأكبر أحمد الطيب.. شيخ الأزهر.