تعقيب على ما نشره الأخ الفاضل الشيخ مروان البجاوي.
فيما سطره تحت عنوان (العلاقة بين الاجتهاد المطلق والكشف والإلهام):
قال: يقول الصوفي الكبير العلامة أحمد الفاروقي السرهندي في «المكتوبات» مفرقاً بين منزلة الإلهام والاجتهاد المطلق عند أهل الولاية الخاصة وغيرهم من الفقهاء:
فقد تحقَّقَ أنَّ المعتبرَ في إثبات الأحكام الشرعية هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وليس وراء هذه الأدلة الأربعة دليلٌ يثبت به الأحكام، فالإلهام غيرُ مثبتٍ للحلّ والحرمة، وكشفُ أهل الباطن لا يثبت به كون الشيءِ فرضاً أو سنة.
وأهل الولايات الخاصَّة يستوون مع عامة المؤمنين في تقليد المجتهدين، والإلهام لا يعطي لهم مزية في هذا الباب، ولا يخرجُهم عن ربقة التقليد، فذو النون والبسطامي والجنيد والشبلي.. يستوون مع عمرو وزيد وبكر وخالد الذين هم من عوام المؤمنين في تقليد المجتهدين في الأحكام الاجتهادية، نعم لهم مزية عليهم في أمور أخرى).انتهى كلامه.
قلت: اسمح لي وليتسع صدر الجميع للتعقيب على ما نقلته من كلام السيد أحمد الفاروقي -رحمه الله تعالى-:
أولا: قوله: (فقد تحقَّقَ أنَّ المعتبرَ في إثبات الأحكام الشرعية هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس) كلامه هذا غير مجمع عليه عند علماء الأصول فمنهم من اختلف في القياس ومنهم من زاد على هذه الأربع... فقول السيد الفاروقي ( وليس وراء هذه الأدلة الأربعة دليلٌ يثبت به الأحكام) لا يسلم له بذلك علماء الأصول أنفسهم. وأنا لا أعرف إلى الآن مذهب الشيخ العلامة الفاروقي في الأصول.
ثانيا: قول السيد الفاروقي: (فالإلهام غيرُ مثبتٍ للحلّ والحرمة، وكشفُ أهل الباطن لا يثبت به كون الشيءِ فرضاً أو سنة.) كلامه حق فالكشف لا يحرم حلالا ولا يحل حراما ولا يثبت به فرض أو سنة فهذا مسلم له.
ثالثا: من مذهب الشيخ الأكبر ابن عربي أن الأحكام لا تثبت إلا بالكتاب والسنة والإجماع... وهو لا يقول بالقياس تبعا لمن لم يقل بالقياس فلا يعاب عليه: ففي "الفتوحات المكية" - طبعة الميمنية الأولى (2/ 162):
(اعلم أن أصول أحكام الشرع المتفق عليها ثلاث الكتاب والسنة المتواترة والإجماع واختلف العلماء في القياس فمن قائل بأنه دليل وأنه من أصول الأحكام ومن قائل بمنعه وبه أقول).انتهى
ومع هذا فهو يقول: كما في "الفتوحات المكية" - طبعة الميمنية الأولى (2/ 163):
(القياس مثله إذا كان جليا لا يرتاب فيه وعندنا وإن لم نقل به في حقي فإني أجيز الحكم به لمن أداه اجتهاده إلى إثباته أخطأ في ذلك أو أصاب فإن الشارع أثبت حكم المجتهد وإن أخطأ وأنه ما جور فلولا أن المجتهد استند إلى دليل في إثبات القياس من كتاب أو سنة أو إجماع أو من كل أصل منها لما حل له أن يحكم به بل ربما يكون في حكم النظر عند المنصف القياس الجلي أقوى في الدلالة على الحكم من خبر الواحد الصحيح فإنا إنما نأخذه بحسن الظن برواته ولا نزكيه علما على الله فإن الشرع منعنا أن نزكي على الله أحدا ولنقل أظنه كذا وأحسبه كذ) انتهى.
رابعا: الشيخ الأكبر عنده أن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بالكتاب والسنة والإجماع كما ذكرتُ آنفا... ومذهب الشيخ الأكبر لا يُدخل في هذا البتة الكشف... فالكشف عنده لا تثبت به الأحكام الشرعية وأمعن النظر في درة من درره حيث قال عند كلامه على الكشف كما في "الفتوحات المكية" - طبعة الميمنية الأولى (3/ 39): (فإن كان وليا فيعرضه على الكتاب والسنة فإن وافق رآه خطاب حق وتشريف لا غير لا زيادة حكم ولا إحداث حكم لكن قد يكون بيان حكم أو أعلاما بما هو الأمر عليه فيرجع ما كان مظنونا معلوما عنده وإن لم يوافق الكتاب والسنة رآه خطاب حق وابتلاء لا بد من ذلك فعلم قطعا إن تلك الرقيقة ليست برقيقة ملك ولا بمجلى إلهي ولكن هي رقيقة شيطانية).
وفي موضع آخر كما في "الفتوحات المكية" - طبعة الميمنية الأولى (3/ 56):
(فلا يتعدى كشف الولي في العلوم الإلهية فوق ما يعطيه كتاب نبيه ووحيه قال الجنيد في هذا المقام علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة وقال الآخر كل فتح لا يشهد له الكتاب والسنة فليس بشيء فلا يفتح لولي قط إلا في الفهم في الكتاب العزيز).
وقال بعد هذا الموضع كما في "الفتوحات المكية" - طبعة الميمنية الأولى (3/ 56):
(فلا يخرج علم الولي جملة واحدة عن الكتاب والسنة فإن خرج أحد عن ذلك فليس بعلم ولا علم ولاية معا بل إذا حققته وجدته جهلا والجهل عدم والعلم وجود محقق فالولي لا يأمر أبدا بعلم فيه تشريع ناسخ لشرعه).
ويكفي ما سقته من نصوص عن الشيخ الأكبر –قدس الله سره- في البيان.
خامسا: النقول عن السادة الصوفية كثيرة جدا جدا لا تحصر على ما قرره الشيخ الأكبر وغيره ممن سبقه كالإمام الجنيد –رضي الله عنه- ومن بعده بأن الكشف لا تثبت به الأحكام الشرعية.
سادسا: خذا هذا النص من علماء الأصول وأجل فيه النظر حينما تعرضوا لقضية الكشف ففيه تفصيل ماتع ففي "تشنيف المسامع بجمع الجوامع" (3/ 458):
(وإنكار أصل الإلهام لا يجوز، ويجوز أن يفعل الله تعالى ذلك بعبده بلطفه كرامة له، ويقول في التمييز بين الحق والباطل: والحق من ذلك أن كلما استقام على شرع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن في الكتاب أو السنة ما يرده فهو مقبول، وما لا فمردود، ويكون من تسويلات النفس، على أنا لا ننكر زيادة نور من الله تعالى كرامة للعبد، وزيادة نظر فأما أنه يرجع إلى قلبه في جميع الأمور كلها فقول لا نعرفه، قلت: وممن أثبته الإمام شهاب الدين السهروردي قال في بعض أماليه: هو علوم تحدث في النفوس المطمئنة الزكية، وفي الحديث: ((إن من أمتي محدثين مكلمين وإن عمر منهم)) وقال تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} أخبر أن النفوس ملهمة، فالنفس الملهمة علوماً لدنية هي التي تبدلت صفتها واطمأنت بعد أن كانت أمارة، ثم نبه على أمر حسن يرتفع به الخلاف، فقال: وهذا النوع لا تتعلق به المصالح العامة من عالم الملك والشهادة، بل تختص فائدته بصاحبه دون غيره، إذا لم يكن له ثمرة السراية إلى الغير على طريق العموم وإن كانت له فائدة تتعلق بالاعتبار على وجه خاص قال وإنما لم يكن له ثمرة السراية إلى الغير طريق العموم من مفاتيح الملك لكون محله النفس، وقربها من الأرض والعالم السفلي، بخلاف المرتبة الأولى، وهي الوحي الذي قام به الملك الملقى، لأنه محله القلب المجانس للروح الروحاني العلوي وقال في كتابه (رشف النصائح الإيمانية): قد غسلت بتوفيق الله كتاب ابن سينا المترجم (بالشفاء) نحو اثني عشر مجلداً بإذن شريف مقدس نبوي).
وأخيرا: وصف الولي بالاجتهاد المطلق هذا لو كان طريقه طريق أهل الاجتهاد والاجتهاد مرتبة لها أدواتها من حيث النظر في الكتاب والسنة والإجماع وغيرهم من الأدلة... والمجتهد المطلق له شروط معروفة مسطورة في كتب الأصول... أما الولي فلا يوصف بكونه مجتهدا مطلقا إلا إذا تساوى مع ما قرره علماء الأصول في شروط المجتهد المطلق.... وما تنتجه مرتبة الولاية لا يلزم منها وصفه بالاجتهاد المطلق لأن الاجتهاد بذل الوسع... فأي وسع بذله من أمده الله بكشف أو إلهام فهذا ليس كسبا كما هو الحال عند المجتهد المطلق.
..... وتحياتي لكم وفقكم الله لمعرفة كلام الأكابر وجعلنا وإياك من محبيهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله ورضي الله عن العلماء العاملين والأولياء الصالحين، ورضي الله عن الشيخ الأكبر وجزاه الله عنا خير الجزاء.
تنبيه: قد عدلت قولي: وأخيرا ... ألخ.
لأني فهمت خطئا من قول أخي الشيخ مروان: (مفرقاً بين منزلة الإلهام والاجتهاد المطلق عند أهل الولاية الخاصة وغيرهم من الفقهاء) ولم ألحظ الواو العاطفة، ففهمت من العبارة أن كل ولي يوصف بالاجتهاد المطلق... فلينظر.
أبو صهيب الحجيري
١٨ أبريل، الساعة ١٢:٤٤ م ·