تعقيب التعقيب الرد على مروان البجاوي

#تعقيب_التعقيب(1)
نشر الشيخ مروان البجاوي البارحة منشورًا مطوَّلًا حشاه بالمغالطات، وملأه بالسبِّ والتنقيصِ والتجريحِ لمخالفيه جميعًا، بما يأنفُ عن مثله الباحثُ عن الحقِّ المتقمِّصُ لباسَ المدافعِ عن عقائد أهل السُّنَّةِ بحقٍّ، وسأعلِّق على عدَّة نقاطٍ مهمَّةٍ في منشوره هذا، فأقول:

أوَّلًا: قولُه: «والردود على ابن عربي لم تنقطع منذ ظهر إلى يومنا هذا، فلا أدري: هل تأخرت كراماته لهذا الحد، أم ماذا؟!» خالٍ من الإنصاف كما عوَّدَنا، فهل غفل الباحثُ أو تغافلَ عن أنَّ ردودَ الرُّدودِ لم تنقطع أيضًا؟! وأنَّ الطُّرقَ الصوفيَّةَ إن لم يكن الشيخُ الأكبر حلقةً من سلسلتها فإنَّه عالي المقامِ رفيعُ الشأنِ عندهم؟! وأيُّ كرامةٍ أعظمُ مِن أن يكونَ الشيخ في سلاسل النُّورِ تلك؟!

ثانيًا: قولُه: «... عقيدة المسلمين التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة» غريبٌ عجيبٌ؛ فإنَّه إذا كان يقصدُ بأهل السُّنَّةِ الأشاعرة والماتريدية، فإنَّه بذلك يرى كفرَ الفرقِ المخالفةِ، لأنه حصر عقيدة المسلمين في عقيدة أهل السنة، خلافًا لِمَا عليه أهلُ السُّنَّةِ الَّذين يتحدَّث باسمهم من عدم تكفير أحدٍ من أهل القبلة، وهذا التفسيرُ متَّسقٌ مع طريقته في التسرُّع في التكفير.

وإن كان يقصدُ معنى أوسع بما يشمل أكثر فرق المخالفين  فيكونُ مطلوبُه تأويلَ كلامِ الشيخِ الأكبر بما يتوافق وعقائدَ الإسلامِ، وافقَت الأشاعرةَ أو غيرَهم من الفرق الإسلامية، وهذا التفسيرُ ملتئمٌ مع تصريحه في إحدى منشوراتِه بطلب التَّوفيقِ بين كلام الشيخِ الأكبرِ و«عقيدةِ الإسلام»، ومع وصفه بعضَ عباراتِ الشيخ الأكبر بأنَّها «عبارات منكرة تخالف ((عقيدة المسلمين)) ظاهرا و((باطنا))»، وقولِه في منشورٍ آخرَ أنَّ لابن العربيِّ كلامًا «لا يقبل التأويل ولا يتفق مع ((نصوص وعقائد الإسلام))».

وقولِه في موضع آخرَ: «ثم إذا طالبتهم بالتبيين والتوفيق بين كلامه ونصوصِ الشريعة و((عقيدة المسلمين)).. رأيتهم صمًّا وبكمًا»... إلخ ما قال ممَّا يدلُّ على أنَّه يرى كفرَ الشيخِ وكُفريَّةَ نصوصِه، ويريدُ مَن يؤوِّلُها بما يُدخل الشيخَ في دائرة الإسلامِ؛ فلمَّا بان له أنَّهم ليسوا صُمًّا وبُكمًا نكص على عقبيه ورجع القَهقرَى، وقال بأنَّ المطلوبَ بيانُ كلامِه موائمةً مع مذهب أهلِ السُّنَّة! بالرَّغم من أنَّه لم يبيِّن المخالفاتِ التي في كلامنا لِمَا عليه أهلُ السُّنَّةِ أصلًا، ولفَّ ودار حول الكلامِ عن فلسفة وحدة الوجود!

وهنا أودُّ التنبيهَ على أمر خطيرٍ، وهو أنَّ الشيخ مروان لم يتراجع عمَّا ذاع عنه وتواتر من تكفيره للشيخ الأكبر كما ظنَّه بعضُ مُحسِني الظنِّ، وأنَّ قولَه في إحدى مناشيرِه: «بالنسبة لشخص ابن عربي فلا دخل لنا به ولا نحكم عليه بكفر ولا إيمان»، وقولَه: «لا أكفر ابن عربي كما أسلفتُ» بما يُفهم منه توقُّفُه في تكفيره- مجرَّدُ خُدعةٍ ومحاولةٍ لخروجه من مأزق اتهامِه بالتكفير، وأنه ما زال على موقفه المعروف من تكفير الشيخِ الأكبر بل وتكفيرِ موافقيه؛ ودليلُ ذلك أمورٌ:

1- تهكُّمُه المتواصلُ بالشيخ الأكبرِ ومؤيِّديه، وممَّا قاله عن الشيخ الأكبر: «رجل اتَّخذه كلُّ أعداء الإسلام متكئًا للَّعب بعقائد وشريعة المسلمين»، متألِّيًا على الله أنَّ أتباع ابنِ العربيِّ إن لم يرجعوا عن قولهم سيذوقون حرَّ جهنم التي تكاد تتميَّزُ من الغيظ.. إلخ ما قاله ممَّا تفوحُ منه رائحةُ التكفيرِ للشيخ ومتابعيه جميعًا!!

2- اتخاذُه موقفًا واحدًا من الكلام عنه وعن نصوصه المشكِلةِ، ممَّا يدلُّ على أنه يرجِّحُ إحدى الكِفَّتين؛ فكيف يُظهر بعد ذلك التوقُّفَ الدالَّ على تكافؤ الأدلَّةِ؟!

3- تصريحُه في تعليقٍ له أمسِ عند الشيخِ Mohamed Yaseer Yaseer بتكفير الشيخِ الأكبر قائلًا: «أنا أجزم بأن ابن عربي بما كتبه في الفصوص والفتوحات يكفر»! وقد ردَّ عليه الشيخُ عبد الناصر حدارة بتحليل بديعٍ ختمَه بقوله له: «أنت متهوِّر.. وتصلُح أن تكون تكفيريًّا بامتياز». وفي وصفه له بالتكفير دليلٌ على أنه شاع وذاع عنه ذلك بين كثيرين، وليس موقفًا شخصيًّا من واحدٍ أو اثنين يرمونه بذلك تشفِّيًا، كما حاول أن يوهمَ نفسَه ومتابعيه بأنَّ المعركةَ شخصيَّةٌ!

4- تصريحُه في منشوره اليوم المسمَّى «القاصمة» بقوله: «كيف جعل هذا ((الباطني الزنديق))... إلخ».

وصَدَق كذلك في وصفه بالتهوُّر؛ وقد شاهدْنا في هذه الفترةِ الوجيزةِ فقط شواهدَ كثيرةً على ذلك، منها: تسرُّعُه في الحكم بعدم جوازِ إطلاقِ التكفير لغةً، بمعنى نسبةِ الغير إلى الكُفر، ثم تراجع، وتسرُّعُه في الجزم بعدم إمكانيَّةِ تأويلِ كلامِ الشيخ الأكبر، ولمَّا تبيَّن له خلافُ ذلك رجع القهقرى وقيَّد طلبَ التأويلِ، وتسرُّعُه في إطلاق العصمةِ على الله، ثمَّ لمَّا نبَّهه أحدُ الدكاتر الفضلاء على ذلك عدَّل منشورَه وحذف صداقتَه! ومن عجائب القدَرِ هنا أنه اجتهد في إلصاق تهمةِ الاتحادِ بالشيخ الأكبر فوقع هو فيها حين أطلق على الله أنَّه معصومٌ، فالله عنده عاصمٌ معصومٌ، ولعلَّه على غرار قولِ الشيخ الأكبر: «خالق مخلوق»! 

وآخرُ العجائبِ تسرُّعُه اليوم في رمي ابنِ العربيِّ بالزندقة، حين وقع على نصٍّ توهَّمه كفرًا كما أَلِفَ، وعدَّ ذلك قاصمةَ الظُّهور، وظنَّ أنَّه أتى بشبهة جديدةٍ لم يُرم بها الشيخُ الأكبر مِن قبلُ ولم يُردَّ عليها، فردَّ عليه الفضلاءُ في التعليقات وبيَّنوا له جهلَه بمصطلح الشيخ في «الولاية»، وتسرُّعَه في تكفير الشيخِ اعتمادًا على فهمه الخاطئ للنصِّ، وقصموا به ما سمَّاه القاصمة!! ثم قبل كل ذلك تسرُّعُه في اتهام شيخِ الأزهر بالجهل بكلام زقزوق أو الكفرِ!!

فلَعَمري أيُّ الفريقين أحقُّ بالوصف بالغَرارة والجهلِ والطَّيشِ والنَّزَقِ، بعد كلِّ هذا؟!

ثالثًا: قولُه بأنه لم يقصد بتر النصوص، وإنما أراد التنصيص على محل الإشكال- مراوغةٌ؛ إذ كيف لباحثٍ يَحكُمُ على عقائد الناسِ بلهَ الأولياءِ، ثم يقتطع النصوصَ ويبحثُ عمَّن يشرحُها له ويحلُّ مُشكِلَها، فجديرٌ به- إن كان طالبًا الحقَّ- أن يُنقِّبَ عن المخارج والتماسِ المعاذيرِ والتأويلات، لا التَّهجُّمُ على التخطئةِ والتضليلِ بلهَ التكفيرِ!!

رابعًا: قولُه: «مع أن الفص [يعني الإدريسي] كله من أوله إلى آخره ضد عقيدة أهل السنة والجماعة» تهوُّرٌ وتسرُّعٌ للمرَّة السبعين، ويُعلم ذلك بأدنى تأمُّلٍ في هذا الفَصِّ.

خامسًا: صال وجال ولفَّ ودار في محاولة لإرجاع الضَّميرِ في قول ابنِ العربيِّ: «ما نكح سوى نفسه» إلى الله، بناءً على نظرته للوجود، وليس كما زعم؛ فإنَّ الشيخ الأكبر في نفس الفقرة قال متحدِّثًا عن مثال سيدِنا إبراهيمَ مع ولده سيِّدِنا إسماعيلَ حين قال له: {افْعَلْ ما تُؤْمَرُ}: «فما رأى يَذبحُ سوى نفسِه» يعني سيِّدَنا إبراهيمَ؛ لأنَّ إسماعيلَ ابنُه فهو نفسه، «والولدُ عينُ أبيه» كما قال الشيخ، ثم بعد ذلك قال: «{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فما نكح سوى نفسِه» فلا يعني كذلك إلَّا سيِّدَنا آدمَ؛ لأنَّ حوَّاءَ منه، كما أنَّ إسماعيلَ من إبراهيمَ عليهما السلام، فالسياق كلُّه ليس سوى بيانٍ وتقريبٍ للمعاني الذوقيَّةِ التي تحدث عنها، ضاربًا الأمثلةَ والشواهدَ بما ذكرنا وغيرِه.

فليت شِعري كيف يُرتجى من باحث الوصولُ إلى الحقِّ، والفهمُ عن أكابر الأولياء، بلهَ الحكمِ عليهم وهو بمثل هذا التسرُّعِ، وتلك المجازَفةِ والتخبُّطِ في إرجاع ضميرٍ فقط، في كلمةٍ واحدةٍ من كلام الشيخ الأكبر؟! هيهات هيهات!

ولعلَّ هذا الخلطَ والوهمَ الَّذي خاله تحقيقًا وفهمًا سرى إليه من كتاب أحدِ الوهابيَّةِ الَّذي ينقل عنه، ويصدُرُ في نقده منه! سأنشر صورته هنا؛ ليُعلم من أين جاءت نبرةُ التكفيرِ، والجزمُ في مواطن الاحتمالِ، وتسفيهُ المخالفِ وثَلبُه!

هذا أهمُّ ما أردتُّ التعليقَ عليه من كلامه، ولم أكن أرغبُ في المواصلة في نقاشٍ لا يحترمُ فيه المحاورُ عقلَ محاورِه، ولكن دفعني إلى ذلك إصرارُه على بعض المغالطاتِ التي وقفتُ على ما ظهر لي منها هنا، وقد كفانا الشيخُ الفاضل الصوفي الرَّزِينُ - أبو صهيب الحجيري -  مَؤونةَ الرَّدِّ على منشوره المسمَّى «قاصمة الظهور»، فقد وَأَدَه في مَهدِه بتعليقٍ يُكتب بماء الذَّهب.
هذا، ولئلَّا نتركَ مساحةً لأهل الظُّنونِ والبطالةِ فإنِّي أعتقدُ ولايةَ الشيخِ الأكبر، وعدمَ التعلُّقِ بظواهرِ ما أَشكَلَ من كلامه بل التأويلُ الحسنُ أو التسليمُ؛ فإنَّنا لم نقترب من شواطيء البحارِ التي عبرها أولئك الأكابرُ، حتَّى ندَّعيَ الإحاطةَ بفهم كلامِهم والإلمامَ بمقاصدِ رموزِهم وإشاراتِهم، رَزقَنا اللهُ من علومهم.

وبعدُ: فإنِّي أودُّ التنويهَ على أنَّه لا صلةَ لي بالشيخ الشاذلي لا في الدخول في هذه القضيَّةِ، ولا في الالتحاق بأيَّة مجموعةٍ علميَّةٍ دراسيَّةٍ له، والوصفُ بالذَّيل أجدرُ به مَن يَصدُرُ في نقده عن مدرسةٍ معلومٍ هجومُها على الشيخ الأكبر، وكتبٍ للوهابيَّة!

اللهمَّ اجعلنا أذيالًا لأوليائك الَّذين اصطفيتَهم، وحجبتَ الطَّغامَ عن أنوار إشاراتِهم ورموزِهم.
#محمد_المالكي_الأزهري