#ملازمة_الشيوخ [مهمٌّ حاولتُ اختصارَ فكرتِه، فاصبر على قراءته]
ممَّا وعَيناه- معاشرَ الطلبةِ- عن الأساتذة، وقرأناه في كتب التراجم والطَّبقاتِ أنه لا بُدَّ في طلب العلمِ من ملازَمةِ الأساتذةِ، الَّذين نتخرَّجُ عليهم في العلوم، ونكتسبُ منهم مَلَكةَ الفنِّ المدروس؛ لتستمرَّ حلقاتُ السِّلسلةِ العلميَّةِ المتينةِ دون وهْنٍ أو انقطاعٍ، ويتكاملَ البناءُ المعرفيُّ في شتَّى الفنونِ، ويستطيعَ اللَّاحقُ أن يُضيفَ لَبِنةً قويَّةً مؤثِّرةً في الصَّرح العلميِّ الَّذي ورِثَه عن السَّابق.
وهذه الملازمةُ ليس لها وقتٌ تقفُ دونه أو تنتهي إليه، بل تظلُّ قائمةً حتى تمامِ غرضِها من إتقان الفنِّ وتحصيلِ الملَكَةِ فيه، وكلَّما وجد التلميذُ شيخًا مَّا في فنٍّ مَّا أمتَنَ وأعرَقَ وأرسَخَ= كان ذلك أَدْعى لطُولِ مُلازَمتِه والاغترافِ مِن بحر علمِه، والعكسُ بالعكس؛ ولذلك وجدنا ابنَ القاسمِ لازم مالكًا عشرين سنةً حتى صار أوثقَ أصحابِه في الفُتيا بعده، ورأينا ابنَ جنِّيْ لازم شيخَه أبا عليٍّ الفارسيَّ أربعين سنةً، حتى إنه لم يوجد بعد أبي عليٍّ مَن يَخلُفُه في مسجد بغدادَ مثلُه!
هذا، والقضيَّةُ ليست في مطلَق الملازَمةِ، بل لا بدَّ من ملازمة الشيخِ المتمكِّنِ المشارِ إليه بالبَنان في فنِّه؛ حتى تحصلَ الاستفادةُ المرجوَّة، وتتحقَّقَ الغايةُ المطلوبة، أمَّا إطالةُ المدَّةِ مع شيخ يدورُ في فلكٍ صغيرٍ في فنٍّ مَّا فتضييعٌ للأعمار، وإهدارٌ للأوقات في غير طائلٍ، وليس ذلك قَدحًا في هذا الشيخِ بل هو وضعٌ للأمور في نِصابها؛ فالناسُ متفاوتون في العلم بحُكم العادةِ والجِبِلَّةِ، فمِن الشيوخِ مَن لا يتعدَّى مستواه كتبَ المبتدئين أو المتوسِّطين فحسبُك من مثلِه مُدَّةٌ تأخذُ فيها ما عنده، وتنصرفُ إلى مَن يأخذ بيدك إلى غايتك المأمولةِ، وقد كان في المتقدِّمين مَن كان يَصِلُ إلى مستوًى معيَّنٍ في العلم مع تلميذه، ثم تدفعُه أمانةُ العلمِ ووفاءُ الصُّحبةِ إلى إرشاد تلميذِه أن يتحوَّلَ إلى مَن هو أعلمُ منه يواصلُ معه التعلُّمَ.
وبعدُ: فالملازمةُ لا تَعني مصاحبةَ شيخٍ واحدٍ في كلِّ الفنونِ والاستغناءَ به عمَّن سواه، بل المطلوبُ ملازمةُ الشيخِ المتمكِّن، كلٌّ في فنِّه الذي يُحسِنُه، فقد يكونُ واحدًا في فنٍّ أو فنونٍ، وقد يكونُ اثنين أو ثلاثةً أو عشرةً كذلك، فالملازمةُ ليست أن تقومَ وتنامَ عند الشيخ، بل المواظبةُ على مجالسه وحسنُ المراجعةِ والمطالعةِ فيما يحاضرُ فيه الشيخ، وهذا قد يحصُلُ مع أكثرَ من شيخٍ بحسب الفنون التي ترغبُ في تلقِّيها؛ وقد كان عالمُ المدينة مالكٌ ملازمًا لمجالس ابنِ هُرمز ثلاثين سنةً، منها سبعُ سنواتٍ لم يَخلِطه بغيره، كما كان مصاحبًا لربيعةَ الرَّأي ونافعٍ والزُّهريِّ وغيرِهم، فبالرَّغم من كون كلِّ واحدٍ من شيوخه كان أُمَّةً في العلم إلا أنه كان يدرِكُ قيمةَ تعدُّدِ المشاربِ، وأهميَّةَ الأخذِ عن كل واحدٍ ما يَبُزُّ فيه نظيرَه في العلم؛ فأخذ الفقهَ- مثلًا- عن ربيعةَ، والحديثَ عن الزُّهريِّ، والفُتيا عن نافعٍ، والكلامَ عن ابنِ هُرمز وهكذا..
ولم يَعرِفِ السلفُ أو الخَلَفُ فكرةَ توحيدِ الوِجهةِ بالانطواء على معلِّمٍ واحدٍ في كلِّ شيءٍ، وهذا في زمنٍ لم يعرفوا فيه التخصُّصَ بالصورة الراهنة، فما بالُك بعصرنا الذي قلَّما تجدُ مَن يُتقِنُ فيه فنًّا مَّا بلهَ فنونِ المعقولِ والمنقولِ؟! وشخصيًّا: لم أجد أحدًا ممَّن أخذتُ عنهم وأفدتُّ منهم طَلَب منِّي، تصريحًا أو تلويحًا، ألَّا أذهبَ لغيره ولو في نفس فنِّه!
وأخيرًا: يجدُرُ التنبيهُ إلى أنَّه قد يضطَّرُّ أحدُنا- في مرحلةٍ ما- إلى الاقتصار على شيخ واحدٍ، في فنٍّ مَّا أو عدَّةِ فنونٍ، لمُلابَساتٍ وضروراتٍ خاصَّةٍ، لكن الضرورة تُقدَّرُ بقَدرِها.
#محمد_المالكي_الأزهري