آداب الصلاة و أسرارها

 ذكر آداب الصلاة و أسرارها
أحسن آداب المصلى أن لا يكون مشغول القلب بشيء قل أو كثر، لأن الأكياس لم يرفضوا الدنيا إلا ليقيموا الصلاة كما أمروا.
لأن الدنيا و اشتغالها لما كانت شاغلة للقلب رفضوها غيرة على محل المناجاة، و رغبة فى أوطان القربات، و إذا عانا بالباطن لرب البريات، لأن حضور الصلاة بالظاهر إذعان الظاهر، و فراغ القلب فى الصلاة عما سوى اللّه تعالى إذعان الباطن.
فلم يروا حضور الظاهر و تخلف الباطن، حتى لا يختل إذعانهم، فتنخرم عبوديتهم، فيجتنب أن يكون باطنه مرتهنا بشيء و يدخل الصلاة.

و قيل: من فقه الرجل أن يبدأ بقضاء حاجته قبل الصلاة، و لهذا ورد -إذا حضر العشاء و العشاء فقدموا العشاء على العشاء-.
و لا يصلى و هو حاقن يطالبه البول، و لا حازق يطالبه الغائط، و الحزق أيضا ضيق الخلق. و لا يصلى أيضا من وخفه ضيق يشغل قلبه ، فقد قيل: لا رأى لحازق. قيل: الذى يكون معه ضيق.

و فى الجملة: ليس من الأدب أن يصلى و عنده ما يغير مزاج باطنه عن الاعتدال كهذه الأشياء التى ذكرناها و الاهتمام المفرط و الغضب.، و فى الخبر: لا يدخل أحدكم فى الصلاة و هو مقطب، و لا يصلين أحدكم و هو غضبان ، فلا ينبغى أن يتلبس بالصلاة إلا و هو على أتم الهيئات.

و أحسن لبسة المصلى سكون الأطراف، و عدم الالتفات، و الإطراق، و وضع اليمين على الشمال، فما أحسنها من هيئة عبد ذليل واقف بين يدى ملك عزيز.

و فى رخصة الشرع دون الثلاث حركات متواليات جائز، و أرباب العزيمة يتركون الحركة فى الصلاة جملة.
و قد حركت يدى فى الصلاة و عندى شخص من الصالحين، فلما انصرفت من الصلاة أنكر على و قال: عندنا أن العبد إذا وقف فى الصلاة ينبغى أن يبقى جمادا لا يتحرك منه شيء.
و قد جاء فى الخبر: سبعة أشياء فى الصلاة من الشيطان: الرعاف، و النعاس، و الوسوسة، و التثاؤب، و الحكاك، و الالتفات، و العبث بالشيء من الشيطان أيضا.و قيل: السهو و الشك.

و قد روى عن عبد اللّه بن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال: إن الخشوع فى الصلاة ألا يعرف المصلى من على يمينه و شماله.
و نقل عن سفيان أنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته.
و روى عن معاذ بن جبل أشد من ذلك قال: من عرف من عن يمينه و شماله فى الصلاة متعمدا فلا صلاة له.
و قال بعض العلماء: من قرأ كلمة مكتوبة فى حائط أو بساط فى صلاته فصلاته باطلة. قال بعضهم: لأن ذلك عدوه عملا.
و قيل فى تفسير قوله تعالى:( اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) قيل: هو سكون الأطراف و الطمأنينة.
قال بعضهم: إذا كبرت التكبيرة الأولى فاعلم أن اللّه ناظر إلى شخصك، عالم بما فى ضميرك، و مثل فى صلاتك الجنة عن يمينك، و النار عن شمالك.

و إنما ذكرنا أن تمثل الجنة و النار لأن القلب إذا شغل بذكر الآخرة ينقطع عنه الوسواس، فيكون هذا التمثيل تداويا للقلب لدفع الوسوسة.


أخبرنا شيخنا ضياء الدين أبو النجيب السهروردى إجازة قال أنبأنا عمر ابن أحمد الصفار قال أنا أبو بكر بن خلف قال أنا أبو عبد الرحمن قال سمعت أبا الحسين الفارسى يقول سمعت محمد بن الحسين يقول.

قال سهل: من خلا قلبه عن ذكر الآخرة تعرض لوساوس الشيطان، فأما من باشر باطنه صفو اليقين و نور المعرفة، فيستغنى بشاهده عن تمثيل مشاهده.


قال أبو سعيد الخراز: إذا ركع فالأدب فى ركوعه أن ينتصب و يدنو و يتدلى فى ركوعه حتى لا يبقى منه مفصل إلا و هو منتصب نحو العرش العظيم، ثم يعظم اللّه تعالى حتى لا يكون فى قلبه شيء أعظم من اللّه تعالى، و يصغر فى نفسه حتى يكون أقل من الهباء.
و إذا رفع رأسه و حمد اللّه يعلم أنه سبحانه و تعالى يسمع ذلك.

و قال أيضا: و يكون معه فى الخشية ما يكاد يذوب به.


قال السراج: إذا أخذ العبد فى التلاوة فالأدب فى ذلك أن يشاهد و يسمع قلبه كأنه يسمع من اللّه تعالى، أو كأنه يقرأ على اللّه تعالى.
و قال السراج أيضا: من أدبهم قبل الصلاة المراقبة، و مراعاة القلب من الخواطر و العوارض، و نفى كل شيء غير اللّه تعالى.
فإذا قاموا إلى الصلاة بحضور القلب فكأنهم قاموا من الصلاة إلى الصلاة، فيبكون مع النفس و العقل اللذين دخلوا فى الصلاة بهما، فإذا خرجوا من الصلاة رجعوا إلى حالهم من حضور القلب، فكأنهم أبدا فى الصلاة، فهذا هو أدب الصلاة.
و قيل: كان بعضهم لا يتهيأ له حفظ العدد من كمال استغراقه، و كان يجلس واحد من أصحابه يعدد عليه كم ركعة صلى.
و قيل: للصلاة أربع شعب: حضور القالب فى المحراب، و شهود العقل عند الملك الوهاب، و خشوع القلب بلا ارتياب، و خضوع الأركان بلا ارتقاب لأن عند حضور القلب رفع الحجاب، و عند شهود العقل رفع العتاب، و عند حضور النفس فتح الأبواب، و عند خضوع الأركان وجود الثواب.
فمن أتى الصلاة بلا حضور القلب فهو مصل لاه، و من أتاها بلا شهود العقل فهو مصل ساه، و من أتاها بلا خضوع النفس فهو مصل خاطئ، و من أتاها بلا خشوع الأركان فهو مصل جاف، و من أتاها كما وصف فهو مصل واف.
و قد ورد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم: -إذا قام العبد إلى الصلاة لمكتوبة، مقبلا على اللّه بقلبه و سمعه و بصره، انصرف من صلاته و قد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

و إن اللّه ليغفر بغسل الوجه خطيئة أصابها، و بغسل يديه خطيئة أصابها، و بغسل رجليه خطيئة أصابها، حتى يدخل فى صلاته و ليس عليه وزر-.


و ذكرت السرقة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال: -أى السرقة أقبح فقالوا: اللّه و رسوله أعلم، فقال: إن أقبح السرقة أن يسرق الرجل من صلاته، قالوا:كيف يسرق الرجل من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها و لا سجودها و لا خشوعها و لا القراءة فيها-.
و روى عن أبى عمرو بن العلاء أنه قدم للإمامة فقال: لا أصلح، فلما ألحوا عليه كبر فغشى عليه، فقدموا إماما آخر، فلما أفاق سئل فقال: لما قلت استووا هتف بى هاتف هل استويت أنت مع اللّه قط.
و قال عليه السلام-إن العبد إذا أحسن الوضوء، و صلى الصلاة لوقتها، و حافظ على ركوعها و سجودها و مواقيتها، قالت: حفظك اللّه كما حفظتنى، ثم صعدت و لها نور حتى تنتهى إلى السماء.

و حتى تصل إلى اللّه فتشفع لصاحبها، و إذا أضاعها قالت: ضيعك اللّه كما ضيعنى، ثم صعدت و لها ظلمة حتى تنتهى إلى أبواب السماء فتغلق دونها، ثم تلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها-.


و قال أبو سليمان الدارانى: إذا وقف العبد فى الصلاة يقول اللّه تعالى:
-ارفعوا الحجب فيما بينى و بين عبدى، فإذا التفت يقول اللّه: أرخوها فيما بينى و بينه، و خلوا عبدى و ما اختار لنفسه-.
و قال أبو بكر الوراق: ربما أصلى ركعتين فانصرف منهما و أنا أستحى من اللّه حياء رجل انصرف من الزنا. قوله هذا لعظيم الأدب عنده. و معرفة كل إنسان بأدب الصلاة على قدر حظه من القرب.
و قيل لموسى بن جعفر: إن الناس أفسدوا عليك الصلاة بممرهم بين يديك، قال: إن الذى أصلى له أقرب إلى من الذى يمشى بين يدى.

و قيل: كان زين العابدين على بن الحسين رضى اللّه عنهما إذا أراد أن يخرج إلى الصلاة لا يعرف من تغير لونه، فيقال له ذلك، فيقول: أتدرون بين يدى من أريد أن أقف؟


و روى عمار بن يسار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال: -لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما يعقل-.
قد ورد فى لفظ آخر-منكم من يصلى الصلاة كاملة، و منكم من يصلى النصف، و الثلث، و الربع، و الخمس، حتى يبلغ العشر-.
و قال الخواص: ينبغى للرجل أن ينوى نوافله لنقصان فرائضه، فإن لم ينوها لم يحسب له منها شيء.
بلغنا أن اللّه لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة. يقول اللّه تعالى: -بدأ بالهدية قبل قضاء الدين-.
و قال أيضا: انقطع الخالق عن اللّه تعالى بخصلتين: إحداهما أنهم طلبوا النوافل و ضيعوا الفرائض، و الثانية أنهم عملوا أعمالا بالظواهر و لم يأخذوا أنفسهم بالصدق فيها و النصح لها.
و أبى اللّه تعالى أن يقبل من عامل عملا إلا بالصدق و إصابة الحق.
و فتح العين فى الصلاة أولى من تغميض العين، إلا أن يتشتت همه بتفريق النظر فيغمض العين للاستعانة على الخشوع.
و إن تثاءب فى الصلاة يضم شفتيه بقدر الإمكان، و لا يلزق ذقنه بصدره، و لا يزاحم فى الصلاة غيره.
قيل: ذهب المزحوم بصلاة المزاحم.
و قيل: من ترك الصف الأول مخافة أن يضيق على أهله فقام فى الثانى أعطاه اللّه مثل ثواب الصف الأول من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
و قيل: إن إبراهيم الخليل عليه السلام كان إذا قام إلى الصلاة يسمع خفقان قلبه من ميل.
و روت عائشة رضى اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يسمع من صدره أزيز كأزيز المرجل، حتى كان يسمع فى بعض سكك المدينة.
و سئل الجنيد: ما فريضة الصلاة؟ قال: قطع العلائق، و جمع الهم، و الحضور بين يدى اللّه.
و قال الحسن: ماذا يعز عليك من أمر دينك إذا هانت عليك صلاتك.
و قيل: أوحى اللّه تعالى إلى بعض الأنبياء فقال-إذا دخلت الصلاة فهب لى من قبلك الخشوع، و من بدنك الخضوع، و من عينك الدموع، فإنى قريب-.
و قال أبو الخير الأقطع: رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فى المنام.
فقلت يا رسول اللّه أوصنى، فقال-يا أبا الخير عليك بالصلاة فإنى استوصيت ربى فأوصانى بالصلاة و قال لى إن أقرب ما أكون و أنت تصلى-.

و قال ابن عباس رضى اللّه عنهما: ركعتان فى تفكر خير من قيام ليلة.


و قيل إن محمد بن يوسف الفرغانى رأى حاتما الأصم واقفا يعظ الناس فقال له يا حاتم أراك تعظ الناس أفتحسن أن تصلى؟
قال: نعم.
قال: كيف تصلى؟
قال: أقوم بالأمر، و أمشى بالخشية، و أدخل بالهيبة، و أكبر بالعظمة و اقرأ بالترتيل، و أركع بالخشوع، و أسجد بالتواضع، و أقعد للتشهد بالتمام، و أسلم على السنة، و أسلمها إلى ربى، و أحفظها أيام حياتى، و ارجع باللوم على نفسى، و أخاف ألا تقبل منى، و أرجو أن تقبل منى، و انا بين الخوف و الرجاء، و أشكر من علمنى، و أعلمها من سالنى، و أحمد ربى إذ هدانى.
فقال محمد بن يوسف: مثلك يصلح أن يكون واعظا.
--------------------
الباب الثامن و الثلاثون من كتاب عوارف المعارف للإمام السهروردى رضى الله عنه