مسائل مختلف فيها بين السنة والبدعة

مسائل مختلف فيها بين السنة و البدعة
بسم الله الرحمن الرحيم
1-  عن عباد بن عبد الله بن الزبير أن عائشة وبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن أمرن بجنازة سعد بن مالك رضي الله عنه أن يُمَرَّ بها عليهن ، فمُرَّ به في المسجد ، فجعل يُوقف على الحُجَر فيصلين عليه ، ثم بلغ عائشة رضي الله عنها أن بعض الناس عاب ذلك وقال : هذه بدعة ، ما كانت الجنازة تُدخل المسجد . فقالت : ما أسرع الناسَ إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به ، وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن بيضاء إلا في جوف المسجد [ 1 ].
أقول : فأنت ترى أن بعض الناس في زمن عائشة رضي الله عنها وهم من الصحابة أو التابعين قد يقولون عن أمر ما إنه بدعة لأنهم لم يقفوا على دليله ، ولكن إذا ظهر الدليل حُسم الأمر وبطل الخلاف .

2- أخبر ربيعةُ بنُ عبد الله بنِ الهُدَير أنه رأى ابنَ عباس ـ وهو أمير على البصرة في زمان علي بن أبي طالب ـ متجرداً على منبر البصرة ، فسأل الناسَ عنه ، فقالوا : إنه أمر بهَدْيه أن يُقلَّدَ ، فلذلك تجرد . قال ربيعة : فلقِيت ابن الزبير ، فذكرت ذلك له ، فقال : بدعة ورب الكعبة [ 2 ].
أقول : لا شك في أن من قلد هديه وبعث به فإنه لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم لحديث عائشة رضي الله عنها ، قالت : فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة ، فما حرم عليه شيء كان له حل [ 3 ].
ولكن يبدو أن بعض الصحابة ذهب إلى أن من قلد الهدي وبعث به فإنه يجتنب ما يحرم على المحرم ، إما وجوباً وإما استحباباً ، لأنه ما كان قد بلغهم حديث عائشة ، وإنما حكم ابن الزبير على ذلك بأنه بدعة ـ على ما يبدو ـ لأنه كان قد سمع الحديث ، وعائشة هي خالته ، رضي الله عنهم .

3-  قال طلحة بن مصّرف : زاد الربيع بن خُثيم في التشهد (( بركاته ومغفرته )) ، فقال علقمة : نقف حيث عُلّمنا (( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته )) [ 4 ] . والربيع بن خثيم وعلقمة بن قيس النخعي كلاهما من كبار التابعين بالكوفة .

4- قال الإمام أحمد رحمه الله عن التعريف بالأمصار في المساجد عشية عرفة (( لا بأس به )) ، وأحب أن أذكر هنا إنكار الإمام مالك رحمه الله :
قال الطرطوشي : قال ابن وهب : وسمعت مالكاً يُسأل عن جلوس الناس في المسجد عشية عرفة بعد العصر واجتماعِهم للدعاء ،
 فقال : ليس هذا من أمر الناس ، وإنما مفاتيح هذه الأشياء من البدع . وقال مالك في مرة أخرى : ما نعرف هذا ، وإن الناس عندنا اليوم ليفعلونه [ 5 ] .
أقول : فقد اختلف في حكمه إمامان من كبار أئمة الفقه ، وهما مالك وأحمد ، فالمسألة اجتهادية ، وليست من بدع الضلالة ، ولا يخفى ما فيها من خير كبير .

 5 - قال ابن المنذر : وأجمعوا أن السجود على الحجر جائز ، وانفرد مالك فقال بدعة [ 6 ] .
ذكره في مسائل كتاب الحج ، والظاهر أن المراد به تمريغ الوجه على الحجر الأسود ، وقد كان مالك إذا رأى الناس أحدثوا أمراً لم يعهده ولم يبلغه عن السلف الماضين قال عنه بدعة ، ويبدو أن كثيراً من الأئمة الآخرين ينظرون إلى مدى قربه أو بعده عن الأمور المشروعة وعما يحقق للناس من خير ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبله ، وهو من شعائر الله ، وتعظيم شعائر الله مطلوب ، وتمريغ الوجه عليه يعبر عن شدة الشوق والشغف ببيت الله المعظم وبأكرم جزء فيه ، فلا جرم كان ذلك جائزاً عند الجمهور .

6-  قال عبد الله ابن الإمام أحمد : سمعت أبي وذكر وضع الكتب فقال : أكرهها ، ... هذا أبو حنيفة وضع كتاباً ... مالك ...الشافعي ، وهذه الكتب وضعها بدعة , كلما جاء رجل وضع كتابا ويترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!. [ 7 ].
أقول : لعل من مذهب الإمام أحمد أنْ تُصرف عناية العلماء إلى تدوين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة والتابعين ، وكأنه يرى أنه ينبغي أن يكون التفقه شفوياً مع الرواية ، ولا داعي عنده بعد ذلك إلى وضع الكتب الفقهية !!! وكأنه كان يخشى أن تصرف العناية إلى كتب الفقه ويؤدي ذلك إلى إهمال الحديث والآثار .
أما سائر الفقهاء فما رأوا هذا الرأي ، ووضعت الكتب ، واستمر التأليف ، ونشطت الحركة العلمية ، وعلوم الشريعة كلها ـ بفضل الله تعالى ـ يهيئ الله تعالى لها من يقومون برعايتها وحفظها وخدمتها ، حتى إن فقهاء الحنابلة الذين أحجموا فترة من الزمن عن التأليف ما لبثوا أن دخلوا غمار الميدان وأسهموا إلى جانب سائر العلماء في إثراء المكتبة الإسلامية بمؤلفاتهم في الفقه وغيره من علوم الشريعة . وما أظن أحداً اليوم يقول إن وضع الكتب الملتزمة بمناهج الكتاب والسنة بدعة .

7 - وأخيراً فمن العجائب الغرائب أن يختلف اثنان من أهل العلم المعاصرين اختلافاً كبيراً في إحدى هيئات الصلاة ، وكلاهما من أشد الناس دعوة إلى التمسك بالسنة ونبذ البدع ، وذلك في مسألة وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة حالة الاعتدال بعد الركوع .
أما أحدهما فيرى أنه سنة ، دون أن يكون عنده نص واضح صريح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من السلف ، غاية ما في الأمر أنه اعتمد على الإطلاق الذي جاء في بعض أقوال الصحابة في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أنه إذا كان قائماً في الصلاة يضع يده اليمنى على اليسرى ، ولو كان هذا يشمل ما قبل الركوع وبعده لكان الصحابة والتابعون يفعلونه ، ولو فعلوه لوصل إلى أئمة الفقه ولأخذت به بعض المذاهب الفقهية على الأقل ، فلما لم نجد ذلك عن أحد الأئمة الفقهاء كان ذلك قرينة على أن المراد في ذلك الإطلاق هو القيام للقراءة ، لا قيام الاعتدال من الركوع .
وأما الآخر فلما لم يجد دليلاً على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع يده اليمنى على اليسرى حالة الاعتدال من الركوع قال إنه بدعة ضلالة ! .
أقول : الحكم على كل ما لم يثبت بأنه بدعة ضلالة هو نتيجة التسرع في إطلاق هذه الكلمة الخطيرة ، ولو قيل بالكراهة في مثل هذه المخالفة في الهيئة لكان أقرب إلى الصواب من الحكم عليها بأنها بدعة ضلالة . ( انتهى بتصرف يسير )
-------
من كتاب البدعة المحمودة بين شبهات المانعين و استدلالات المجيزين
 للشيخ الدكتور/ صلاح الدين بن أحمد الإدلبي
_________
(1) سنن البيهقي : 4 / 51 .
(2) مصنف ابن أبي شيبة : 5 / 120 من المحققة ، الحج ، باب من كان يمسك عما يمسك عنه المحرم . بسند صحيح . والمراد من كونه متجرداً أنه متجرد من الملابس المخيطة ولابس ثياب الإحرام . والهَدْي : ما يهديه الحاج إلى الحرم من الأنعام . وتقليد الهدي : أن يعلق في عنق البدنة مثلاً شيء كالقلادة ليُعلم أنها هدي . وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر نحواً من ذلك بسند صحيح .
(3) صحيح البخاري : الحج ، باب إشعار البُدْن ، برقم 1699 ، 1700 . مصنف ابن أبي شيبة : 5 / 118 .
(4) المعجم الكبير للطبراني : 10 / 63 بسند صحيح . مصنف عبد الرزاق : 2 / 200 بنحوه ، من طريق آخر عن الربيع بن خُثيم وفي السند انقطاع .
(5) الحوادث والبدع للطرطوشي : ص 257 .
(6) الإجماع لابن المنذر : ص 20 .
(7) مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله : ص 437 .