مفتاح باب السير إلى الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم
أجمع علماء السلوك رضوان الله تعالى عليهم على أن تصحيح البدايات يدل على حسن وإشراق النهايات .
يقول أحد العارفين : ( إذا صح العلم الظاهر ووافق عليه السر الباطن كان معرفة ) ، وهذا معنى المعرفة عند القوم ، ولكل أمر بداية ونهاية ، وللطريق مفترق ، فمن أخطأ السير فإنه لا يصل إلى الغاية ، قال الله تعالى : [ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ] الأنعام :153 .

كيف نصحح بداية السير إلى الله تعالى ؟
 تُصحح البدايات بالرجوع من الخطأ إلى الصواب ، ومن الذنب إلى التوبة ، والتوبة هي ( رجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود فيه ) ، وهي مبدأ طريق السالكين ، ومفتاح سعادة المريدين ، وشرط في صحة السير إلى الله تعالى .
والتوبة أصل كل مقام ، وكمال كل حال ، وأساس كل طريق ، ولا بد لها من النية .
ومتى علت همة التائب إلى الله تعالى وثبت صدقه وإخلاصه فيها ، كان حقاً على الله تعالى أن يتقبلها ويعينه على الثبات عليها ، ويلهمه المتابعة على الطاعة .
ولا تصح توبة من لم يرَ ذنبه أو رآه على خلاف الحقيقة ، لأن ذلك من تزيين النفس الأمارة بالسوء .
ولذلك كانت التوبة إصلاحاً ، وقربة عظيمة لله تعالى ، وهي مدعاة لحبه سبحانه ، لأن فيها تهذيب للنفس .
ومن كان صادقاً وراغباً في اصلاح وتهذيب نفسه مع عدم رؤيته لذنبه ، فالواجب عليه اتخاذ أخٍ مرشد له صادق في إعانته على الخير والرفعة والرقي إمتثالاً لقوله تعالى :[ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ] المائدة : 2 
ولا يقف السالك عند التوبة من المعصية لأنها توبة العوام ، يقول أحد العارفين رضي الله عنهم : ( شتان بين تائب وتائب ، تائب يتوب من الذنوب والسيئات ، وتائب يتوب من الزلل والغفلات ، وتائب يتوب من رؤية الحسنات ، وتائب يتوب من كل شيء يشغل قلبه عن الله تعالى ) ، قال الله تعالى: [ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ] البقرة  : 222 .

والتواب لغة : المتكررة توبته ، وقد قال عليه الصلاة والسلام ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ) ، وهذا هو مقام التوبة المستمرة في نية العبد السالك إلى الله تعالى
والذنوب الباطنة أشد خطراً وأعظم أثراً على إيمان المسلم ، قال الله تعالى [ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ] الأعراف : 33 
فعمر الذنب الظاهر يكون بقدر مدة وقوعه ، فإن تاب المسلم واستغفر وأتبع ذنبه بحسنة فقد محاه .
أما أثر الذنوب الباطنة فإنها ملازمة لصاحبها في يومه وعمره ، فإذا نام المتكبر مثلاً فالكبر ماثل في قلبه ، وإذا استيقظ استيقظت معه دواعي كبره ، قال عليه الصلاة والسلام ( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) ، ولذلك كانت تنقية القلب وتهذيب النفس من أهم الفرائض العينية ، وأوجب الأوامر الإلهية ( على قدر صفاء الأسرار تتنزل الأنوار ) .

يقول سيدي ابن عليوه قدس الله تعالى سره :
إن مقدمة طريق القوم التي يتوصل بها المريد لحقائق العلوم ، ويدرك بها معنى الكتاب ، ويصير يفرق بها بين الخطأ والصواب هي الإعتقاد والجزم القاطع في ابتدائه لتصير حق اليقين في انتهائه ، ويكون غير متردد ولا متوهم في طريقه ، وفي توجهه لربه يتمكن بمراده ، لأن القوم لا ينفع معهم إلا الصدق والإعتقاد ، وإلا يُطرد المريد مع عدم وجود الاستعداد عنده ولهذا قالوا : طريقتنا مبنية على النية والتصديق لا على البحث والتدقيق .
    
كيفية التخلص من الصفات الذميمة :( الأمراض والذنوب الباطنة ).
1- نية التوبة منها .
2- العزم على التخلي عنها بالتحلي بصفة حميدة تقابلها .
 3- مراقبة النفس .
 4- المجاهدة في إزالة الصفة المذمومة كلما ظهرت .
5- معرفة قواطع الطريق في السير إلى الله تعالى  ( الخلق والدنيا والنفس والشيطان ) ، والتي هي سبب من أسباب وجود تلك الصفة المذمومة . 
 6- إعداد العدة والتعبئة للوقاية من تلك الأعداء القاطعة عن الطريق ، فلا بد من :
 أ - حفظ أبداننا من تلك القواطع ومن سهامها وذلك بلبس درع الإيمان بالله تعالى .
 ب - حمل العلم وإظهاره في وجه تلك القواطع [ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ] البقرة : 282
ج - وضوح نية المجاهدة في ذلك بالإستعانة به سبحانه لنيل رضاه في طاعة أوامره وتحقيق شريعة الحق له سبحانه .
د - تطهير القلب عما سوى الله تعالى ، [ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ] الشعراء : 89
هـ - الأخذ بنصائح الذين سبقونا من السالكين المرشدين وصحبتهم .
و - الثبات والمتابعة في تخطي العلائق والعوائق والعقبات المانعة من وصول السالك إلى مبتغاه .
ز - الإقبال على الله تعالى بالكلية مع كثرة ذكره وشكره .

  غاية السير إلى الله عز وجل .
( تركت الناس كلهم ورائي وجئت إليك ) ( اللهم أنت مقصودي ورضاك مطلوبي )
لكل شيء غاية ، فالغاية من الكلام فهمه ، والغاية من فهمه العلم به ، والغاية من العلم العمل به ، وغاية العمل وجود الإخلاص فيه ، والغاية من الإخلاص معرفة الله تعالى وتوحيده والغاية من المعرفة الوصول إليه تعالى ، وغاية الوصول شهوده سبحانه . فمن لا غاية له لا جِدَّ له ، فوجود الغاية التي يهدف إليها كل إنسان هي التي تدفعه إلى الجد والسعي لبلوغ الهدف ، وعلى قدر وضوح الغاية يكون السعي والطلب . قال ابن عباس رضي الله عنه وغيره من المفسرين في قول الله تعالى: [ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] الذاريات : 56 أي ليعرفون ، أي لتكون العبادة الحقة لمن عرف مقام ربه وجلال قدره وكمال صفاته وعظيم قدرته فيطيعه فيما أمر ويجتنب ما نهى عنه بثقة واطمئنان ورضا ، ويخضع إليه خضوع اللائذ المستجير ، مطمئناً واثقاً برحمته تعالى ، لا طاعة الخائف من عقابه ، الهارب من عذابه ، المكره على أمره ،
ولذلك ورد عند أهل السلوك قولهم ( أجمع أهل الحق قاطبة على أن أول الواجبات معرفة الله تعالى ، واتفقوا على عدم صحة العبادة لمن لا يعرف معبوده )  ووسيلة ذلك : صحة السير إلى الله عز وجل ولا يكون إلا بجمع الهمة وتحقيق الإخلاص والعزم على الوصول إلى الغاية المنشودة .
وبرهان ذلك : السلوك العملي الصحيح ، ولا يظهر هذا السلوك إلا بالأخلاق ( التصوف كله أخلاق فمن زاد عليك في الأخلاق زاد عليك بالتصوف ) . والأخلاق تظهر بالتعامل مع الآخرين ، وفي عمل الجوارح طاعة أو معصية أو أخلاقاً .
    *****
   تنبيه السالك والمريد لما فيه الفلاح والتسديد.