متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا ؟ ومتى يجوز للمسلم الإنكار على أخيه المسلم؟
في ظلال الحالة الإفتائية المعاصرة وما يشوبها من خلاف وتلبيس، يحتاج الاختلاف والخلاف إلى فقه خاص، إن لم يرفعه ويحل الوفاق محله، يمنع من تمادي المختلفين إلى ألوان الصراع والتعادي. فعلى سبيل المثال نجد من يرى حرمة حلق اللحية وينكر على من يرى كراهة حلقها، وهناك من يرى وجوب تغطية وجه المرأة وينكر على من قال: بجواز كشف وجهها، في سلسلة طويلة من المسائل الخلافية ...
ونريد أن نعرف متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا؟ ومتى يجوز للمسلم الإنكار على أخيه المسلم؟ وهل كثرة الأقوال في الفقه الإسلامي من باب الرحمة أم النقمة؟ وهل ما يفعله هؤلاء المنكرون هو الصواب؟
الجواب
فالاختلاف في اللغة: مصدر «اختلف» وهو ضد الاتفاق، والخِلاف: المُضادة وهو مصدر «خَلَفَ»، وقد خالفهُ مخالفةً وخِلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذَهَبَ كلُّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق، وتخالف الأمران واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف (1).
هناك فرق بين الخلاف والاختلاف؟
الخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء، فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا، فقد اختلفا اختلافًا (2).
ومن ذلك قول الفقهاء من الحنفية في الفتاوى الهندية: «إن اختلف المتقدِّمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين، فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم؟». فما عبروا عنه أولا بالاختلاف عبروا عنه ثانيًا بالخلاف فهما شيء واحد (3).
قال في الدر المختار: «الأصل أن القضاء يصح في موضع الاختلاف لا الخلاف، والفرق أن للأول دليلا لا الثاني»، وعلَّق ابن عابدين عليه بقوله: «(قوله: والفرق ... إلخ) هذه تفرقة عرفية، وإلا فقد قال تعالى: ?وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ? [البقرة: 213] ?وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ? [البينة: 4] ولا دليل لهم، والمراد: أنه خلاف لا دليل له بالنظر للمخالف، وإلا فالقائل اعتمد دليلا» (4).
ومن العلماء (5) مَن جعل بينهما فرقًا، يقول أبو البقاء في كتابه الكليات: «والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا. والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا. والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل، فالاختلاف من آثار الرحمة والخلاف من آثار البدعة.
ولو حكم القاضي بالخلاف ورُفِع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف؛ فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع» (6).
ويقول الراغب الأصفهاني: «والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين» (7).
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح التهانوي، فقال: «قال بعض العلماء: إن الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه ... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف» (8).
متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا؟
والخلاف المعتبر: هو الخلاف الذي له حظ من النظر، أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل، أو عليه دليل ليس بقوي (9).
ولذلك وضع العلماء لجعل الخلاف مُعتبرًا شروطًا؛ لأن الخلاف إن كان مما يندرج تحت هذه الشروط، اعتُبر وصح القول بمراعاته.
وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: أن يكون الخلاف قوي المُدْرَك (10).
الشرط الثاني: ألا يؤدي الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة.
الشرط الثالث: ألا يؤدي الخلاف إلى خرق الإجماع.
الشرط الرابع: أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنًا.
الشرط الخامس: ألا يوقع الخلاف في خلاف آخر.
الخلاف في الفروع سعة ورحمة:
وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وهم خير الأمة، وكذلك مَنْ بعدهم مِنْ أئمة التابعين والعلماء، فما خاصم أحد منهم أحدًا، ولا عادى أحد أحدًا، ولا نسب أحد أحدًا إلى خطأ ولا قصور (11).
قال الإمام الذهبي بعد ذكره مسألة خلافية بينه وبين ابن منده: «ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له، قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه، لما سَلِم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا مَن هو أكبر منهما والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة» (12).
فترى أن الأئمة العلماء نظروا إلى الاختلاف على أنه توسعة من الله ورحمة منه بعباده المكلفين غير القادرين بأنفسهم على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
وقد أحبَّ العلماء السعة في التشريع؛ وذلك لإدراكهم أن السعة مقترنة باليسر وهما مقترنان بالرحمة، واليسر مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية (13).
وقد نقل ابن تيمية عن الإمام أحمد أن رجلا صنَّف كتابًا في الاختلاف، فقال له الإمام: «لا تُسمِّه كتابَ الاختلاف، ولكن سمه كتابَ السَّعَة» (14)، فنبَّه الإمامُ أحمد غيره إلى الفائدة من هذا الاختلاف قبل أن يقع في الخطأ، بأن يظن أن هذا الاختلاف المشروع المحمود من قبيل الاختلاف المذموم، وهو الاختلاف في الأصول (15).
قال السيوطي: «اعلم أن اختلاف المذاهب في الملة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون وعمي عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة؟!
ومن العجب أيضًا مَن يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض، تفضيلاً يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربما أدَّى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبية وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك» (16).
وقال الإمام ابن قدامة في مقدمة كتابه المغني: «فإن الله تعالى برحمته وطوله وقوته وحوله، ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتداءهم بأئمتهم وفقهائهم، وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها، وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها وينتهى إلى رأيها، وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهَّد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة» (17).
وإقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالهم أصرح من مقالهم، ومن ذلك ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد، فقد روي أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: ما يسرني أنهم لم يختلفوا. ثم كتب إلى الأمصار: ليقضِ كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم (18).
بل قد نقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين، ومن ذلك ما جاء في مجموع الفتاوى لابن تيمية في أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟ وهل يجهر بها أو لا؟ فبعد ذكره للأقوال في المسألة قال: «ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا» (19).
خطأ الإنكار في المختلف فيه:
فالإنكار في مسائل الخلاف الفرعية يُضيِّق على المسلمين حياتهم ويوقعهم في الحرج، ويخرجهم من دائرة السعة والرحمة، وفيه خلاف أيضًا لما عليه علماء الأمة من أن العامي المحض، والعَالم الذي تعلَّم بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد- يلزمهما التقليد، ولا يصح أن ينكر بعض المقلدين على بعض فيما أخذ كل منهم بقول عالم متبع.
يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه: «بلوغ السول» تحت عنوان: «استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية»: «وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية، كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يقول به أحد بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها، مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع» (21).
الخلاصة
وبناء على كل ما تقدم فلا يجوز للمسلم الإنكار على أخيه وإحداث الفرقة بين المسلمين في المسائل الفرعية الخلافية، لا سيما وأن هناك مَن قال بها من العلماء المعتبرين، وعلى المسلمين أن يجتمعوا على المتفق عليه ولا يفرقهم المختلف فيه، فقد تقرر بين العلماء إنما يُنكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه، فلو خالف أحدهم في مسألة اتفق العلماء على نقيضها جاز حينئذ الإنكار، والله تعالى أعلى وأعلم.
دار الافتاء المصرية
------------------------------
المصادر والمراجع:
- المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، الناشر: دار المعرفة- (بيروت).
- أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، بقلم: محمد عوامة، الناشر: دار البشائر الإسلامية- (بيروت)، ط2، 1418هـ- 1997م.
- الأشباه والنظائر، جلال الدين السيوطي، الناشر: دار الكتب العلمية- (بيروت).
- الدر المختار، ومعه حاشية العلامة ابن عابدين، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، تقديم: د. محمد بكر إسماعيل، الناشر: دار عالم الكتب- (الرياض)، طبعة خاصة، 1423هـ- 2003م.
- الكليات، معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبو البقاء الكفوي، تحقيق: د. عدنان درويش، محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة- (بيروت)، ط2، 1419هـ- 1998م.
- المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن علي بن إسماعيل، المعروف بـ «ابن سيده»، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، الناشر: دار الكتب العلمية- (بيروت)، ط1، 1421هـ- 2000م.
- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، الناشر: دار الكتب العلمية- (بيروت).
- المغني، ابن قدامة المقدسي، الناشر: دار إحياء التراث العربي.
- جزيل المواهب في اختلاف المذاهب، جلال الدين السيوطي، نسخة مخطوط بمكتبة الأزهر- (مصر).
- حاشية العطار على شرح الإمام المحلي لجمع الجوامع لتاج الدين السبكي، الناشر: دار الكتب العلمية- (بيروت).
- سنن الدارمي، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، خالد السبع العلمي، الناشر: دار الكتاب العربي- (بيروت)، ط1، 1407هـ.
- سير أعلام النبلاء، الإمام شمس الدين الذهبي، أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط1، 1402هـ- 1982م.
- مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: عامر الجزار، وأنور الباز، الناشر: دار الوفاء- (مصر)، ط3، 1426هـ- 2005م.
- بلوغ السول في مدخل علم الأصول، للشيخ محمد حسنين مخلوف، مطبعة مصطفى الحلبي.
الهوامش:
(1) انظر: المحكم، ابن سيده، ص (5/ 200)، والمصباح المنير (1/ 179).
(2) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (2/ 291 - 292).
(3) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (2/ 292).
(4) حاشية ابن عابدين على الدر المختار (8/ 91).
(5) انظر: أدب الاختلاف، الشيخ الفاضل محمد عوامة، ص (8 - 10).
(6) الكليات، أبو البقاء الكفوي، ص (61).
(7) مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص (156).
(8) كشاف اصطلاحات الفنون (1/ 116).
(9) ونظمها بعضهم بقوله:
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
(10) المدرك: مكان الإدراك وهو الدليل، لأن الدليل محل إدراك الحكم، فالسنة مُدْرَك من مدارك الشرع وهي مواضع طلب الأحكام. انظر: حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع (2/ 250)، والمصباح المنير ص (192، 193).
(11) جزيل المواهب في اختلاف المذاهب، السيوطي، نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر- (مصر) (2/ ب).
(12) سير أعلام النبلاء، (14/ 40).
(13) انظر: أدب الاختلاف، ص (32).
(14) انظر: مجموع الفتاوى، (14/ 95).
(15) انظر: أدب الاختلاف، ص (32).
(16) جزيل المواهب في اختلاف المذاهب، السيوطي، نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر- (مصر) (2/أ- ب).
(17) انظر مقدمة كتاب المغني، لابن قدامة.
(18) أخرجه الدارمي في سننه، باب «اختلاف الفقهاء»، (1/ 159)، حديث (628).
(22/ 239) (19)
(20) قال السيوطي في الأشباه والنظائر ص (158): «ويستثنى صور، يُنكرُ فيها المختلف فيه: إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقص، ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطئه المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء. الثانية: أن يترافع فيه الحاكم، فيحكم بعقيدته، ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ؛ إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده. الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حق، كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته، وكذلك الذمية على الصحيح».
(21) ص (15) ونخص بكلامنا ما قد يثيره في زماننا غير المتخصصين؛ من الإنكار على مخالفيهم في مسائل الفروع التي يظنون أن الصواب فيها هو ما هم عليه فقط، وذلك لجهل أغلبهم بقاعدة مشهورة بين العلماء وأهل التخصص، وهي أنه «لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه» (20).
في ظلال الحالة الإفتائية المعاصرة وما يشوبها من خلاف وتلبيس، يحتاج الاختلاف والخلاف إلى فقه خاص، إن لم يرفعه ويحل الوفاق محله، يمنع من تمادي المختلفين إلى ألوان الصراع والتعادي. فعلى سبيل المثال نجد من يرى حرمة حلق اللحية وينكر على من يرى كراهة حلقها، وهناك من يرى وجوب تغطية وجه المرأة وينكر على من قال: بجواز كشف وجهها، في سلسلة طويلة من المسائل الخلافية ...
ونريد أن نعرف متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا؟ ومتى يجوز للمسلم الإنكار على أخيه المسلم؟ وهل كثرة الأقوال في الفقه الإسلامي من باب الرحمة أم النقمة؟ وهل ما يفعله هؤلاء المنكرون هو الصواب؟
الجواب
فالاختلاف في اللغة: مصدر «اختلف» وهو ضد الاتفاق، والخِلاف: المُضادة وهو مصدر «خَلَفَ»، وقد خالفهُ مخالفةً وخِلافًا، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذَهَبَ كلُّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق، وتخالف الأمران واختلفا لم يتفقا، وكل ما لم يتساو فقد تخالف واختلف (1).
هناك فرق بين الخلاف والاختلاف؟
الخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء، فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا، فقد اختلفا اختلافًا (2).
ومن ذلك قول الفقهاء من الحنفية في الفتاوى الهندية: «إن اختلف المتقدِّمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين، فهذا الإجماع هل يرفع الخلاف المتقدم؟». فما عبروا عنه أولا بالاختلاف عبروا عنه ثانيًا بالخلاف فهما شيء واحد (3).
قال في الدر المختار: «الأصل أن القضاء يصح في موضع الاختلاف لا الخلاف، والفرق أن للأول دليلا لا الثاني»، وعلَّق ابن عابدين عليه بقوله: «(قوله: والفرق ... إلخ) هذه تفرقة عرفية، وإلا فقد قال تعالى: ?وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ? [البقرة: 213] ?وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ? [البينة: 4] ولا دليل لهم، والمراد: أنه خلاف لا دليل له بالنظر للمخالف، وإلا فالقائل اعتمد دليلا» (4).
ومن العلماء (5) مَن جعل بينهما فرقًا، يقول أبو البقاء في كتابه الكليات: «والاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحدًا. والخلاف: هو أن يكون كلاهما مختلفًا. والاختلاف: ما يستند إلى دليل، والخلاف: ما لا يستند إلى دليل، فالاختلاف من آثار الرحمة والخلاف من آثار البدعة.
ولو حكم القاضي بالخلاف ورُفِع لغيره يجوز فسخه بخلاف الاختلاف؛ فإن الخلاف هو ما وقع في محل لا يجوز فيه الاجتهاد، وهو ما كان مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع» (6).
ويقول الراغب الأصفهاني: «والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقًا غير طريق الآخر في حاله أو قوله. والخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين» (7).
ومن الذين نقلوا الفرق بينهما في الاصطلاح التهانوي، فقال: «قال بعض العلماء: إن الاختلاف يُستعمل في قولٍ بُني على دليل، والخلاف فيما لا دليل عليه ... ويؤيده ما في غاية التحقيق منه أن القول المرجوح في مقابلة الراجح يقال له خلاف، لا اختلاف» (8).
متى يُعدُّ الخلاف معتبرًا؟
والخلاف المعتبر: هو الخلاف الذي له حظ من النظر، أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل، أو عليه دليل ليس بقوي (9).
ولذلك وضع العلماء لجعل الخلاف مُعتبرًا شروطًا؛ لأن الخلاف إن كان مما يندرج تحت هذه الشروط، اعتُبر وصح القول بمراعاته.
وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: أن يكون الخلاف قوي المُدْرَك (10).
الشرط الثاني: ألا يؤدي الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة.
الشرط الثالث: ألا يؤدي الخلاف إلى خرق الإجماع.
الشرط الرابع: أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنًا.
الشرط الخامس: ألا يوقع الخلاف في خلاف آخر.
الخلاف في الفروع سعة ورحمة:
وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وهم خير الأمة، وكذلك مَنْ بعدهم مِنْ أئمة التابعين والعلماء، فما خاصم أحد منهم أحدًا، ولا عادى أحد أحدًا، ولا نسب أحد أحدًا إلى خطأ ولا قصور (11).
قال الإمام الذهبي بعد ذكره مسألة خلافية بينه وبين ابن منده: «ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له، قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه، لما سَلِم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا مَن هو أكبر منهما والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة» (12).
فترى أن الأئمة العلماء نظروا إلى الاختلاف على أنه توسعة من الله ورحمة منه بعباده المكلفين غير القادرين بأنفسهم على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
وقد أحبَّ العلماء السعة في التشريع؛ وذلك لإدراكهم أن السعة مقترنة باليسر وهما مقترنان بالرحمة، واليسر مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية (13).
وقد نقل ابن تيمية عن الإمام أحمد أن رجلا صنَّف كتابًا في الاختلاف، فقال له الإمام: «لا تُسمِّه كتابَ الاختلاف، ولكن سمه كتابَ السَّعَة» (14)، فنبَّه الإمامُ أحمد غيره إلى الفائدة من هذا الاختلاف قبل أن يقع في الخطأ، بأن يظن أن هذا الاختلاف المشروع المحمود من قبيل الاختلاف المذموم، وهو الاختلاف في الأصول (15).
قال السيوطي: «اعلم أن اختلاف المذاهب في الملة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون وعمي عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة؟!
ومن العجب أيضًا مَن يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض، تفضيلاً يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربما أدَّى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبية وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك» (16).
وقال الإمام ابن قدامة في مقدمة كتابه المغني: «فإن الله تعالى برحمته وطوله وقوته وحوله، ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتداءهم بأئمتهم وفقهائهم، وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها، وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها وينتهى إلى رأيها، وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهَّد بهم قواعد الإسلام، وأوضح بهم مشكلات الأحكام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة» (17).
وإقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالهم أصرح من مقالهم، ومن ذلك ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد، فقد روي أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: ما يسرني أنهم لم يختلفوا. ثم كتب إلى الأمصار: ليقضِ كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم (18).
بل قد نقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين، ومن ذلك ما جاء في مجموع الفتاوى لابن تيمية في أثناء كلامه عن البسملة، هل هي آية أول كل سورة أو لا؟ وهل يجهر بها أو لا؟ فبعد ذكره للأقوال في المسألة قال: «ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا» (19).
خطأ الإنكار في المختلف فيه:
فالإنكار في مسائل الخلاف الفرعية يُضيِّق على المسلمين حياتهم ويوقعهم في الحرج، ويخرجهم من دائرة السعة والرحمة، وفيه خلاف أيضًا لما عليه علماء الأمة من أن العامي المحض، والعَالم الذي تعلَّم بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد- يلزمهما التقليد، ولا يصح أن ينكر بعض المقلدين على بعض فيما أخذ كل منهم بقول عالم متبع.
يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه: «بلوغ السول» تحت عنوان: «استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية»: «وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية، كأقوال الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يقول به أحد بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها، مع عدالتهم وسعة اطلاعهم واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنًّا- أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي صونًا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع» (21).
الخلاصة
وبناء على كل ما تقدم فلا يجوز للمسلم الإنكار على أخيه وإحداث الفرقة بين المسلمين في المسائل الفرعية الخلافية، لا سيما وأن هناك مَن قال بها من العلماء المعتبرين، وعلى المسلمين أن يجتمعوا على المتفق عليه ولا يفرقهم المختلف فيه، فقد تقرر بين العلماء إنما يُنكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه، فلو خالف أحدهم في مسألة اتفق العلماء على نقيضها جاز حينئذ الإنكار، والله تعالى أعلى وأعلم.
دار الافتاء المصرية
------------------------------
المصادر والمراجع:
- المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، الناشر: دار المعرفة- (بيروت).
- أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، بقلم: محمد عوامة، الناشر: دار البشائر الإسلامية- (بيروت)، ط2، 1418هـ- 1997م.
- الأشباه والنظائر، جلال الدين السيوطي، الناشر: دار الكتب العلمية- (بيروت).
- الدر المختار، ومعه حاشية العلامة ابن عابدين، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، تقديم: د. محمد بكر إسماعيل، الناشر: دار عالم الكتب- (الرياض)، طبعة خاصة، 1423هـ- 2003م.
- الكليات، معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبو البقاء الكفوي، تحقيق: د. عدنان درويش، محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة- (بيروت)، ط2، 1419هـ- 1998م.
- المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن علي بن إسماعيل، المعروف بـ «ابن سيده»، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، الناشر: دار الكتب العلمية- (بيروت)، ط1، 1421هـ- 2000م.
- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، الناشر: دار الكتب العلمية- (بيروت).
- المغني، ابن قدامة المقدسي، الناشر: دار إحياء التراث العربي.
- جزيل المواهب في اختلاف المذاهب، جلال الدين السيوطي، نسخة مخطوط بمكتبة الأزهر- (مصر).
- حاشية العطار على شرح الإمام المحلي لجمع الجوامع لتاج الدين السبكي، الناشر: دار الكتب العلمية- (بيروت).
- سنن الدارمي، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، خالد السبع العلمي، الناشر: دار الكتاب العربي- (بيروت)، ط1، 1407هـ.
- سير أعلام النبلاء، الإمام شمس الدين الذهبي، أشرف على تحقيق الكتاب وخرج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، ط1، 1402هـ- 1982م.
- مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: عامر الجزار، وأنور الباز، الناشر: دار الوفاء- (مصر)، ط3، 1426هـ- 2005م.
- بلوغ السول في مدخل علم الأصول، للشيخ محمد حسنين مخلوف، مطبعة مصطفى الحلبي.
الهوامش:
(1) انظر: المحكم، ابن سيده، ص (5/ 200)، والمصباح المنير (1/ 179).
(2) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (2/ 291 - 292).
(3) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (2/ 292).
(4) حاشية ابن عابدين على الدر المختار (8/ 91).
(5) انظر: أدب الاختلاف، الشيخ الفاضل محمد عوامة، ص (8 - 10).
(6) الكليات، أبو البقاء الكفوي، ص (61).
(7) مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص (156).
(8) كشاف اصطلاحات الفنون (1/ 116).
(9) ونظمها بعضهم بقوله:
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر
(10) المدرك: مكان الإدراك وهو الدليل، لأن الدليل محل إدراك الحكم، فالسنة مُدْرَك من مدارك الشرع وهي مواضع طلب الأحكام. انظر: حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع (2/ 250)، والمصباح المنير ص (192، 193).
(11) جزيل المواهب في اختلاف المذاهب، السيوطي، نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر- (مصر) (2/ ب).
(12) سير أعلام النبلاء، (14/ 40).
(13) انظر: أدب الاختلاف، ص (32).
(14) انظر: مجموع الفتاوى، (14/ 95).
(15) انظر: أدب الاختلاف، ص (32).
(16) جزيل المواهب في اختلاف المذاهب، السيوطي، نسخة مخطوطة بمكتبة الأزهر- (مصر) (2/أ- ب).
(17) انظر مقدمة كتاب المغني، لابن قدامة.
(18) أخرجه الدارمي في سننه، باب «اختلاف الفقهاء»، (1/ 159)، حديث (628).
(22/ 239) (19)
(20) قال السيوطي في الأشباه والنظائر ص (158): «ويستثنى صور، يُنكرُ فيها المختلف فيه: إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقص، ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطئه المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء. الثانية: أن يترافع فيه الحاكم، فيحكم بعقيدته، ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ؛ إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده. الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حق، كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته، وكذلك الذمية على الصحيح».
(21) ص (15) ونخص بكلامنا ما قد يثيره في زماننا غير المتخصصين؛ من الإنكار على مخالفيهم في مسائل الفروع التي يظنون أن الصواب فيها هو ما هم عليه فقط، وذلك لجهل أغلبهم بقاعدة مشهورة بين العلماء وأهل التخصص، وهي أنه «لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه» (20).