فضل الصدقات وسبل تعظيم ثوابها
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :
فإن الإسلام دين يحث على البذل والعطاء والإنفاق ، ويكره الشح والبخل والإمساك ، لذلك أمر أتباعه بالمسارعة إلى الإنفاق في سبيل الله من أموالهم التي استخلفهم الله فيها ، ثم وعدهم بالأجر العظيم ، يقول سبحانه :{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} ، ويقول (عز وجل) : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْك).
ولما كان الإنسان مدنيًّا بطبعه ، يعيش مع بني جنسه يؤثر فيهم ويتأثر بهم ، يأخذ منهم ويعطيهم ، جاء الإسلام بتشريعاته التي لم تعرف البشرية لها مثيلاً ليؤسس لهذا المبدأ ، حيث أمر الأغنياء بالإنفاق والصدقة من أموالهم التي رزقهم الله (عز وجل) إياها ، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ثمَّ وعدهم بالزيادة والنماء ، ومضاعفة الأجر والثواب، فقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فإذا امتثلوا لذلك كانوا من الآمنين يوم القيامة ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، وفي ذلك يقول سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وجدير بالذكر أن الزكاة من شعائر الإسلام وأُسُسِهِ التي تنشر المحبة والألفة والتراحم بين الناس ، فهي عبادة مالية ، وشعيرة ربانية ، وقربة من أجلِّ القرب التي يتقرب بها العبد إلى الله (عزّ وجلّ) ، وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة ، يقول نبينا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (بُنِي الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَحَجِّ البَيْتِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) ، فهي فريضة إسلامية، جعلها الله تعالى دليلاً على صدق إيمان العبد، وكمال إسلامه ، يُعرف بها المؤمنون ، فتتآلف قلوبهم ، وتتضاعف أجورهم ، وتسعد نفوسهم ،كما أنها وسيلة لتحقيق التكافل والتعاون بين جميع أفراد الأمة ، دعا إليها الإسلام رحمة بالضعفاء ، ومواساة للفقراء ، إلى جانب ما فيها من مضاعفة الأجر والثواب يوم القيامة .
كما أن الصدقة طهرة للنّفس من الأخلاق السيئة والأدواء المذمومة ، فبها يطهر الغني من الشح والبخل ، ويطهر الفقير من الحقد والحسد ، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، والإسلام في دعوته للإنفاق حارب العامل النفسي الذي قد يمنع المسلم من الصدقة ، ألا وهو خوف الفقر ونقصان المال ، فأخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) أن المال لا ينقص بالصدقة ، بل يُبارك الله (عز وجل) فيه وينفي عنه الآفات ، مع ما يدخر لصاحبه يوم القيامة من الأجر والثواب ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاَثَةٌ أُقْسمُ عَلَيْهِنَّ : مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزًّا ، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسألَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقرٍ).
ولبيان فضل الصدقة وأهميتها ، ودورها في إصلاح الفرد والمجتمع ، قرنها الله (عز وجل) بالصلاة في مواضع عديدة ، فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وقال (عز وجل): {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، ولعل السر في الجمع بينهما أن الصلاة بيان لعلاقة المسلم بخالقه ، والصدقة بيان لعلاقة المسلم بإخوانه في الحياة ، فالصلاة حق الله تعالى ، والصدقة حق العباد ، يقول ابن عباس (رضي الله عنهما) : ثلاث آيات مقرونات بثلاث ، لا تقبل واحدة بغير قرينتها : قال سبحانه : {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه ، وقال سبحانه :{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه ، وقال سبحانه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
ومن فضائل الصدقة التي وعد الله (عز وجل) عباده المتصدقين:
• مضاعفة الأجر للمتصدق: فلا شك أن المتصدق يرجو عظيم الأجر والثواب الذي أعده الله تعالى للمتصدقين، حيث يقول سبحانه:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}، ففضل الله تعالى واسع ، وعطاؤه غير محدود ، وهو سبحانه يقبل الصدقة ويربيها لصاحبها حتى تصير كالجبل في العِظَم ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: (مَنْ تَصَدَّقَ بعَدلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيبَ ، فَإنَّ اللهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ) .
• أنها سبب الفوز بظل عرش الرحمن يوم القيامة : وهو يوم شديد حره عظيم بأسه ، فقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن أهل الصدقة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله ، فقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ ، وَشَابٌ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ ، فَقال: إنِّي أَخَافُ الله ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُه مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً ففاضت عَيْنَاهُ).
• أنها سبب من أسباب الشفاء ودفع أنواع البلاء : يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَحَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلاَءِ الدُّعَاءَ)، وجاء رجل إلى ابن المبارك (رحمه الله) وسأله عن قرحة خرجت في ركبته منذ سبع سنين ، وقد عالجها بأنواع العلاج فلم ينتفع به ، فقال له : اذهب فاحفر بئرًا في مكان يحتاج الناس فيه إلى الماء ، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ، ويمسك عنك الدم ، ففعل الرجل ، فبرأ بإذن الله (عز وجل) ، ومن ثم يتضح أن الصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ، فإنّ الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء ، وهذا أمر معلوم عند النّاس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض مقرون به لأنّهم قد جربوه.
• أنها سبب لزيادة المال وبركته ونمائه، فقد جعل الإسلام الصدقة سبيلاً لحصول النماء والزيادة والبركة ، قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، إضافة إلى أن المنفق يدعو له ملك كريم من جند الله (عز وجل) بالزيادة والبركة في ماله كل يوم جزاء ما أنفقه في سبيل الله ، بخلاف الممسك البخيل ، فيدعو عليه بالتلف لما بخل به ، يقول (صلى الله عليه وسلم): (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إلاَّ مَلَكانِ يَنْزلاَنِ، فَيقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تلَفًا) .
ومن أجل أن تؤتي الصدقة ثمارها يجب استثمارها فيما يخدم الدين والوطن ، ويلبي حاجات المجتمع ويحقق استقراره وتقدمه ، وأن يجتهد المتصدق في إيصالها لمن يستحقها حتى لا يضيع حق الفقراء ، مع مراعاة ترتيب الأولويات في الصدقة ، وتقديم الأعمِّ نفعًا على غيره ، فإطعام الجائع ، وكساء العاري ، وعلاج المريض، وحفظ كرامة الإنسان ، وحفظ ماء وجهه من سؤال الناس مقدم على غيره ، فالصدقة التي تلبي حاجات المجتمع ، وما فيه مصلحة الدين ورفعة الوطن أكثر نفعًا وأعظم ثوابًا من غيرها ، فكلما كانت الحاجة أشد كان الثواب أعظم .
لقد جعل الإسلام بتشريعاته الحكيمة من الصدقة رباطًا قويًّا بين الغني والفقير ، وعلاجًا لمشكلة الفقر تحقيقًا للتكافل الذي يجعل المجتمع أسرة واحدة متماسكة تصان فيه الحقوق والواجبات ، وتسعد فيه النفوس بحياة كريمة وعيشة راضية ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ) قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة وسلامًا على خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام :
إذا كنا نتعرض لرحمات الله (عز وجل) في هذه الأيام المباركة فعلينا أن نتراحم فيما بيننا ، فمن لا يرحم لا يرحم ، والراحمون يرحمهم الرحمن ، وليس التراحم بمجرد كلمة أو سلام ، إنما التراحم سلوك ، يستوجب التعاون والتكافل ، وأن يأخذ قوينا بيد ضعيفنا ، وغنينا بيد فقيرنا ، وها نحن مقبلون على عيد الفطر المبارك ينبغي أن نوسع فيه على الفقراء ، وأن نغنيهم عن السؤال في هذا اليوم ، وأن نخرج صدقة الفطر إلى مستحقيها ، ومن كان ذا سعة زاد في الصدقة والبر والصلة ، موقنًا بأن ما أنفق من خير فإن الله (عز وجل) سيخلفه ويضاعفه ، حيث يقول الحق سبحانه : {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
وصدقة الفطر شرعت في السنة الثانية من الهجرة ، وهي السَّنةُ التي فرض الله فيها صومَ رمضان ، ومن حِكَمِ مشروعيتها : أنها تَجبر نقصان الصوم ، كما يجبر سجود السهو نقصان الصلاة ، فهي تطهِير للصَّائِمِ مِمَّا يَحصلُ منه فِي صِيامِهِ مِن نَقصٍ وَلَغوٍ وَإثْمٍ، ومنها : إغناء الفقراء عن السؤال في يوم العيد ، لِيُشَارِكُوا الأغنِيَاءَ فِي فَرَحِهِم وَسُرُورِهِم ، فضلاً عما تؤدي إليه هذه الصدقة من التكافل بين أفراد المجتمع ، والتراحم بينهم ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ) .
ويخرجها الإنسان قبل صلاة العيد ، عن نفسه وعمن تلزمه نفقتهم من أهله الذين
لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم ، ويجوز إخراجها حبًّا أو إخراجها نقدًا ، فمن أخرج الحبَّ أجزأه ، ومن أخرج النقد أجزأه ، والأولى منهما ما يكون محققا لمصلحة الفقير أكثر ، من غير إنكار على من يفعل هذا أو ذاك .
وتصرف صدقة الفطر إلى الفقراء والمساكين ، الذين اهتم بهم الإسلام ، وأمر بالإحسان إليهم تحقيقًا لسعادتهم ، وتلبية لحاجاتهم ، وإعانة لهم على متاعب الحياة وتهيئة الحياة الكريمة لهم ، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، وخص من هذه الأصناف الثمانية الفقراء المتعففين وبيَّن صفاتهم ، فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ المِسْكينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَلا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، إِنَّمَا المِسكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ) .
على أنَّ أفضل الصدقة ما كان على الفقراء والمساكين من الأقارب والأرحام ، يقول رَسُول اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (صَدَقَتُكَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ) .
نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبّل منّا أجمعين ، وأن يُلحقنا بالصالحين.
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :
فإن الإسلام دين يحث على البذل والعطاء والإنفاق ، ويكره الشح والبخل والإمساك ، لذلك أمر أتباعه بالمسارعة إلى الإنفاق في سبيل الله من أموالهم التي استخلفهم الله فيها ، ثم وعدهم بالأجر العظيم ، يقول سبحانه :{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} ، ويقول (عز وجل) : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْك).
ولما كان الإنسان مدنيًّا بطبعه ، يعيش مع بني جنسه يؤثر فيهم ويتأثر بهم ، يأخذ منهم ويعطيهم ، جاء الإسلام بتشريعاته التي لم تعرف البشرية لها مثيلاً ليؤسس لهذا المبدأ ، حيث أمر الأغنياء بالإنفاق والصدقة من أموالهم التي رزقهم الله (عز وجل) إياها ، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ثمَّ وعدهم بالزيادة والنماء ، ومضاعفة الأجر والثواب، فقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، فإذا امتثلوا لذلك كانوا من الآمنين يوم القيامة ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، وفي ذلك يقول سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
وجدير بالذكر أن الزكاة من شعائر الإسلام وأُسُسِهِ التي تنشر المحبة والألفة والتراحم بين الناس ، فهي عبادة مالية ، وشعيرة ربانية ، وقربة من أجلِّ القرب التي يتقرب بها العبد إلى الله (عزّ وجلّ) ، وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة ، يقول نبينا (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (بُنِي الإسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أنْ لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ ، وَإقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَحَجِّ البَيْتِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) ، فهي فريضة إسلامية، جعلها الله تعالى دليلاً على صدق إيمان العبد، وكمال إسلامه ، يُعرف بها المؤمنون ، فتتآلف قلوبهم ، وتتضاعف أجورهم ، وتسعد نفوسهم ،كما أنها وسيلة لتحقيق التكافل والتعاون بين جميع أفراد الأمة ، دعا إليها الإسلام رحمة بالضعفاء ، ومواساة للفقراء ، إلى جانب ما فيها من مضاعفة الأجر والثواب يوم القيامة .
كما أن الصدقة طهرة للنّفس من الأخلاق السيئة والأدواء المذمومة ، فبها يطهر الغني من الشح والبخل ، ويطهر الفقير من الحقد والحسد ، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، والإسلام في دعوته للإنفاق حارب العامل النفسي الذي قد يمنع المسلم من الصدقة ، ألا وهو خوف الفقر ونقصان المال ، فأخبرنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) أن المال لا ينقص بالصدقة ، بل يُبارك الله (عز وجل) فيه وينفي عنه الآفات ، مع ما يدخر لصاحبه يوم القيامة من الأجر والثواب ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاَثَةٌ أُقْسمُ عَلَيْهِنَّ : مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزًّا ، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسألَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقرٍ).
ولبيان فضل الصدقة وأهميتها ، ودورها في إصلاح الفرد والمجتمع ، قرنها الله (عز وجل) بالصلاة في مواضع عديدة ، فقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، وقال (عز وجل): {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، ولعل السر في الجمع بينهما أن الصلاة بيان لعلاقة المسلم بخالقه ، والصدقة بيان لعلاقة المسلم بإخوانه في الحياة ، فالصلاة حق الله تعالى ، والصدقة حق العباد ، يقول ابن عباس (رضي الله عنهما) : ثلاث آيات مقرونات بثلاث ، لا تقبل واحدة بغير قرينتها : قال سبحانه : {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه ، وقال سبحانه :{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه ، وقال سبحانه: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
ومن فضائل الصدقة التي وعد الله (عز وجل) عباده المتصدقين:
• مضاعفة الأجر للمتصدق: فلا شك أن المتصدق يرجو عظيم الأجر والثواب الذي أعده الله تعالى للمتصدقين، حيث يقول سبحانه:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}، ففضل الله تعالى واسع ، وعطاؤه غير محدود ، وهو سبحانه يقبل الصدقة ويربيها لصاحبها حتى تصير كالجبل في العِظَم ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: (مَنْ تَصَدَّقَ بعَدلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيبَ ، فَإنَّ اللهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ) .
• أنها سبب الفوز بظل عرش الرحمن يوم القيامة : وهو يوم شديد حره عظيم بأسه ، فقد أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن أهل الصدقة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله ، فقَالَ (صلى الله عليه وسلم) : ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ ، وَشَابٌ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابّا في الله اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ ، فَقال: إنِّي أَخَافُ الله ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُه مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ الله خَالِياً ففاضت عَيْنَاهُ).
• أنها سبب من أسباب الشفاء ودفع أنواع البلاء : يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَحَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلاَءِ الدُّعَاءَ)، وجاء رجل إلى ابن المبارك (رحمه الله) وسأله عن قرحة خرجت في ركبته منذ سبع سنين ، وقد عالجها بأنواع العلاج فلم ينتفع به ، فقال له : اذهب فاحفر بئرًا في مكان يحتاج الناس فيه إلى الماء ، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ، ويمسك عنك الدم ، ففعل الرجل ، فبرأ بإذن الله (عز وجل) ، ومن ثم يتضح أن الصدقة لها تأثير عجيب في دفع أنواع البلاء ، فإنّ الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء ، وهذا أمر معلوم عند النّاس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض مقرون به لأنّهم قد جربوه.
• أنها سبب لزيادة المال وبركته ونمائه، فقد جعل الإسلام الصدقة سبيلاً لحصول النماء والزيادة والبركة ، قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، إضافة إلى أن المنفق يدعو له ملك كريم من جند الله (عز وجل) بالزيادة والبركة في ماله كل يوم جزاء ما أنفقه في سبيل الله ، بخلاف الممسك البخيل ، فيدعو عليه بالتلف لما بخل به ، يقول (صلى الله عليه وسلم): (مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إلاَّ مَلَكانِ يَنْزلاَنِ، فَيقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تلَفًا) .
ومن أجل أن تؤتي الصدقة ثمارها يجب استثمارها فيما يخدم الدين والوطن ، ويلبي حاجات المجتمع ويحقق استقراره وتقدمه ، وأن يجتهد المتصدق في إيصالها لمن يستحقها حتى لا يضيع حق الفقراء ، مع مراعاة ترتيب الأولويات في الصدقة ، وتقديم الأعمِّ نفعًا على غيره ، فإطعام الجائع ، وكساء العاري ، وعلاج المريض، وحفظ كرامة الإنسان ، وحفظ ماء وجهه من سؤال الناس مقدم على غيره ، فالصدقة التي تلبي حاجات المجتمع ، وما فيه مصلحة الدين ورفعة الوطن أكثر نفعًا وأعظم ثوابًا من غيرها ، فكلما كانت الحاجة أشد كان الثواب أعظم .
لقد جعل الإسلام بتشريعاته الحكيمة من الصدقة رباطًا قويًّا بين الغني والفقير ، وعلاجًا لمشكلة الفقر تحقيقًا للتكافل الذي يجعل المجتمع أسرة واحدة متماسكة تصان فيه الحقوق والواجبات ، وتسعد فيه النفوس بحياة كريمة وعيشة راضية ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ) قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة وسلامًا على خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام :
إذا كنا نتعرض لرحمات الله (عز وجل) في هذه الأيام المباركة فعلينا أن نتراحم فيما بيننا ، فمن لا يرحم لا يرحم ، والراحمون يرحمهم الرحمن ، وليس التراحم بمجرد كلمة أو سلام ، إنما التراحم سلوك ، يستوجب التعاون والتكافل ، وأن يأخذ قوينا بيد ضعيفنا ، وغنينا بيد فقيرنا ، وها نحن مقبلون على عيد الفطر المبارك ينبغي أن نوسع فيه على الفقراء ، وأن نغنيهم عن السؤال في هذا اليوم ، وأن نخرج صدقة الفطر إلى مستحقيها ، ومن كان ذا سعة زاد في الصدقة والبر والصلة ، موقنًا بأن ما أنفق من خير فإن الله (عز وجل) سيخلفه ويضاعفه ، حيث يقول الحق سبحانه : {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
وصدقة الفطر شرعت في السنة الثانية من الهجرة ، وهي السَّنةُ التي فرض الله فيها صومَ رمضان ، ومن حِكَمِ مشروعيتها : أنها تَجبر نقصان الصوم ، كما يجبر سجود السهو نقصان الصلاة ، فهي تطهِير للصَّائِمِ مِمَّا يَحصلُ منه فِي صِيامِهِ مِن نَقصٍ وَلَغوٍ وَإثْمٍ، ومنها : إغناء الفقراء عن السؤال في يوم العيد ، لِيُشَارِكُوا الأغنِيَاءَ فِي فَرَحِهِم وَسُرُورِهِم ، فضلاً عما تؤدي إليه هذه الصدقة من التكافل بين أفراد المجتمع ، والتراحم بينهم ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ : (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ) .
ويخرجها الإنسان قبل صلاة العيد ، عن نفسه وعمن تلزمه نفقتهم من أهله الذين
لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم ، ويجوز إخراجها حبًّا أو إخراجها نقدًا ، فمن أخرج الحبَّ أجزأه ، ومن أخرج النقد أجزأه ، والأولى منهما ما يكون محققا لمصلحة الفقير أكثر ، من غير إنكار على من يفعل هذا أو ذاك .
وتصرف صدقة الفطر إلى الفقراء والمساكين ، الذين اهتم بهم الإسلام ، وأمر بالإحسان إليهم تحقيقًا لسعادتهم ، وتلبية لحاجاتهم ، وإعانة لهم على متاعب الحياة وتهيئة الحياة الكريمة لهم ، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، وخص من هذه الأصناف الثمانية الفقراء المتعففين وبيَّن صفاتهم ، فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : (لَيْسَ المِسْكينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَلا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ ، إِنَّمَا المِسكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ) .
على أنَّ أفضل الصدقة ما كان على الفقراء والمساكين من الأقارب والأرحام ، يقول رَسُول اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : (صَدَقَتُكَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ) .
نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبّل منّا أجمعين ، وأن يُلحقنا بالصالحين.