هل يثبت للنبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء حج وهم في برازخهم ؟

(( هل يثبت للنبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء حج وهم في برازخهم؟ )) .
يقول راجي رحمة ربه العلي / محمد رجب أبو تليح الأزهري الشاذلي:
بسم الله لرحمن الرحيم اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا رسول الله وآله وصحبه ومن تبعه ومن والاه
أما بعد.
لقد أوردنا فيما سبق سؤال سائل يقول: هل يثبت للنبي صلى الله عليه وسلم حج وهو في عالم البرزخ؟
والجواب: لقد ثبت للأنبياء عليهم السلام خصائص يتمايزون بها عن سائر الخلق سواء في عالم الحياة الدنيا أو في عالم الآخرة، وكلامنا عن أحوالهم السنية المرضية في برازخهم عليهم الصلاة والسلام! .
فنقول والله الموفق إلى الهدى والصراط المستقيم:
اعلم يا أخي رضي الله عنا وعنكم أن الحياة البرزخية وهي التي تبدأ بمفارقة الروح للجسد حياة مشتركة بين جميع العباد مؤمنهم وكافرهم صالحهم وطالحهم والكل فيها أحياء ما بين صاحب نعيم أو صاحب عذاب مقيم كما جاء الخبر بهذا في الكتاب والسنة، بيد أن الحياة البرزخية درجات ومقامات، وأكمل صورها هي حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم ورثتهم من الأولياء الصالحين العلماء العالمين والشهداء رضي الله عنهم أجمعين.
ولذلك ثبت لهم عليهم الصلاة والسلام كما قلنا خصائص في حياتهم البرزخية فضلوا بها عن غيرهم فحياتهم أكمل الحيوات البرزخية، والدليل القطعي الثابت في هذا قوله تعالى: ((ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)) هذا في سبيل قول اللسان فنهى الله تعالى عباده عن قول أموات للشهداء، وفي سبيل الاعتقاد والإيمان قال تعالى: ((ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)) إلخ ما ذكر من أحوالهم.

وقد ثبتت هذه الحياة بالسنة: جاء فى مستدرك الحاكم فى مناقب سيدنا جعفر بن ابى طالب رضى الله عنه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم أبيض الفؤاد)) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وفى المستدرك وبنفس الباب: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ رد السلام ثم قال: يا أسماء هذا جعفر بن أبي طاالب مع جبريل وميكائيل وإسرافيل سلموا علينا فردي عليهم السلام وقد أخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا قبل ممره على رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث أو أربع فقال: لقيت المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثا وسبعين بين رمية وطعنة وضربة ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت ثم أخذت بيدي اليسرى فقطعت فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل أنزل من الجنة حيث شئت وآكل من ثمارها ما شئت فقالت أسماء: هنيئا لجعفر ما رزقة الله من الخير ولكن أخاف أن لا يصدق الناس فاصعد المنبر فاخبر به فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إن جعفر مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه سلم علي ثم أخبرهم كيف كان أمره حيث لقي المشركين فاستبان للناس بعد اليوم الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جعفر لقيهم فلذلك سمي الطيار في الجنة)) سكت عنه الذهبي في ((التلخيص)) .
وما نال الشهداء ما نالوا إلا بفضل اتباع الأنبياء والرسل، فإذا كان هذا شأن الشهداء فما بالك بالرسل والأنبياء وهم أعلى منهم مقاما وأكرم فضلا.
قال شيخنا الشيخ عمران رحمه الله في ((نظم الدرر في مولد سيد البشر)) :
إن رسول الله حي يرزق *** في روضه كما روي المحقق
وقد مضى عليه قوم تحققوا **** ورده جماعة تزندقوا
قد اعتموا والناس في أنوار

قد قال ربي في الشهيد حي *** يرزقه المهيمن العلي
أهو بذا أولى أم النبي **** فاعجب إذا ما نطق الغبي
الخارجي المظلم الأفكار
وقد ثبت كمال حياتهم بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: ((واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون)) . يقول القرطبي: قال ابن عباس وابن زيد: لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو مسجد بيت المقدس - بعث الله له آدم ومن ولد من المرسلين، وجبريل مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأذن جبريل - صلى الله عليه وسلم - ثم أقام الصلاة، ثم قال: يا محمدتقدم فصل بهم، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له جبريل - صلى الله عليه وسلم -: سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا أسأل قد اكتفيت. قال ابن عباس: وكانوا سبعين نبيا منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم. في غير رواية ابن عباس: فصلوا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة صفوف، المرسلون ثلاثة صفوف والنبيون أربعة، وكان يلي ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم خليل الله، وعلى يمينه إسماعيل وعلى يساره إسحاق ثم موسى ثم سائر المرسلين فأمهم ركعتين، فلما انفتل قام فقال: إن ربي أوحى إلي أن أسألكم هل أرسل أحد منكم يدعو إلى عبادة غير الله؟ فقالوا: يا محمد، إنا نشهد إنا أرسلنا أجمعين بدعوة واحدة أن لا إله إلا الله وأن ما يعبدون من دونه باطل، وأنك خاتم النبيين وسيد المرسلين، قد استبان ذلك لنا بإمامتك إيانا، وأن لا نبي بعدك إلى يوم القيامة إلا عيسى ابن مريم فإنه مأمور أن يتبع أثرك وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا قال: لقي الرسل ليلة أسري به.

وقال الوليد بن مسلم في قوله تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا قال: سألت عن ذلك وليد بن دعلج فحدثني عن قتادة قال: سألهم ليلة أسري به، لقي الأنبياء ولقي آدم ومالكا خازن النار.
وقد ثبتت لهم الصلاة وذلك ثابت في الصحيحين بصلاته صلى الله عليه وسلم بهم في بيت المقدس، وقوله: ((مررت عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ)) أخرجه مسلم.
وقوله: ((الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)) وثبت لهم النصيحة وقبول النبي لنصيحتهم قال صلى الله عليه وسلم: ((فأوحى الله إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فقال ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال فرجعت إلى ربي فقلت يا رب خفف على أمتي فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى فقلت حط عني خمسا قال إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة قال فنزلت حتى انتهيت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه)) .

وسمع منهم إلقاء السلام ورد عليهم سلامهم، وسمع منهم الترحيب وهذا ثابت في أحاديث المعراج، ونقل تحية الخليل ووصيته لنا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلامَ , وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ , وَأَنَّهَا قِيعَانٌ , وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ)) .
وذكر لنا من أحوالهم من فرح وسرور وضحك وبكاء ورد في روايات المعراج الشريف: فلما خلصا إلى السماء، فإذا فيها آدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته، تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيّبة، اجعلوها في عليّين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الكفّار، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين وعن يمينه أسودة وباب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله أسودة وباب تخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله حزن وبكى.
وكل هذه الأجوال وغيرها لم يتحرج النبي صلى الله عليه وسلم من روايتها لنا لأنه سيد المؤمنين بالغيب وهو الذي قرر في نفوس وقلوب أتباعه الإيمان بالحياة البرزخية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أكمل الخلق حياة في البرزخ وأشرف حالا، فثبت له ما ثبت لغيره من إخوانه من الرسل والأنبياء من حياة وإدراك وسماع وإبصار وصلاة....إلخ

ولعل أحدهم يقول: إن الصلاة تكليف والتكليف ينقطع بالموت! .
والجواب: لما كانت الصلاة عندهم عليهم الصلاة والسلام متعة ولذة وقرة عين كما أخبر سيدنا صلى الله عليه وسلم بقوله: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) . أراد الله تعالى أن يصل لهم قرة أعينهم ولذة نفوسهم بعد الموت ليس على سبيل التكليف إنما على سبيل التلذذ والتشريف ورفعا لدرجاتهم إلى يوم القيامة.
إذا فما الدليل على أنهم قد يجوز إثبات الحج لهم؟؟؟؟!!!
الجواب: نقول: ما ثبت في السنة الصحيحة من روايات حجة الوداع عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَتَى عَلَى وَادِي الأَزْرَقِ فَقَالَ: ((مَا هَذَا الْوَادِي)) فَقِيلَ: وَادِي الأَزْرَقِ، فَقَالَ: ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مُنْهَبِطًا لَهُ جُؤَارٌ أَوْ خُوَارٌ إِلَى رَبِّهِ بِالتَّلْبِيَةِ)) ، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةٍ فَقَالَ: ((مَا هَذِهِ الثَّنِيَّةُ؟)) فَقِيلَ: ثَنِيَّةُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ خِطَامُهَا مِنْ لِيفٍ وَهُوَ يُلَبِّي وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ)) .
قال القاري في ((مرقاة المفاتيح)) قال النووي - رحمه الله - فإن قيل: كيف يحجون ويلبون وهم أموات والدار الآخرة ليست بدار عمل؟ الجواب: من وجوه: أحدها: أنهم كالشهداء بل أفضل، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا ويتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا، لأنهم وإن كانوا قد توفوا، فهذا في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدتها، وتعقبها الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل.
وثانيها- أن التلبية دعاء من عمل الآخرة. قال تعالى ((: دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)) .

وثالثها- أن تكون هذه رؤية منام في غير ليلة الإسراء كما قال في رواية ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: بينما أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة، وذكر الحديث في قصة عيسى. قلت: ورؤيا الأنبياء حق وصدق. قال: ورابعها- أنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - أري حالهم التي كان في حياتهم، ومثلوا له في حال حياتهم، كيف كانوا وكيف حجهم وتلبيتهم، كما قال - صلى الله تعالى عليه وسلم: كأني أنظر إلى موسى ". قلت: الظاهر أن المراد بقوله هذا استحضار تلك الحالة الماضية عند الحالة الراهنة للإشارة إلى غاية تحققها ونهاية صدقها.
وخامسها- أن يكون أخبر عما أوحي إليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - من أمرهم وما كان منهم، وإن لم يرهم رؤية عين. قلت: يرده قوله: كأني أنظر إليهما.
والأول هو الأرجح.
ولمزيد شرح ينظر:
شرح النووي على صحيح مسلم (2 / 228) مرقاة المفاتيح للقاري (10 / 395) تحفة الأحوذي (10 / 92) وشرح الزرقاني على ((الموطأ)) (4 / 358)