تفسير ايات الاستواء والتي هي من الايات المتشابهة
الايات التي فيها كلمة (استوى) مضافة الى الله تعالى :
(1) : (2 - 29 البقرة)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(2) : (7 - 54 الأعراف)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
(3) : (10 - 03 يونس)
) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
(4) : (13 - 02 الرعد)
) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
(5) : (20 - 05 طه)
) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)
(6) : (25 - 59 الفرقان)
) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً)
(7) : (32 -04السجدة)
) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ)
(8) : (41-11 فصلت)
) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)
(9) : (- 04 الحديد)
) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير)
الايات التي فيها كلمة (استوى) مضافة الى المخلوق:
(10) : (23 - 28 المؤمنون)
) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
(11) : (28 - 14القصص)
) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)
(12) : (43 - 13 الزخرف)
) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)
(13) : (48 -29 الفتح)
) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)
(14) : (53 - 06 النجم)
) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى)
تفسير ايات الاستواء
الاية الاولى في سورة البقرة رقم 29
: قال المفسرون
1- تفسير جامع البيان في تفسير القرآن للطبري
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُم اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوات}
قال أبو جعفر: اختلف في تأويل قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ}
1. فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء، أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني واستوى إليّ يشاتمني، بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستشهد على أن الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر:
أقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنا شَرَوْرَى... سَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ... فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضَّجوع، وكان ذلك عنده بمعنى أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ، وإنما معنى قوله: «واستوين من الضجوع» عندي: استوين على الطريق من الضجوع خارجات، بمعنى استقمن عليه.
2. وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحوّل إلى الشام، إنما يريد تحوّل فعله.
3. وقال بعضهم: قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ} يعني به: استوت، كما قال الشاعر:
أقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى في تُرَابِهِ... على أيّ دِينٍ قَبَّلَ الرأسَ مُصْعَبُ
4. وقال بعضهم: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ} : عمد إليها. وقال: بل كل تارك عملاً كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه.
5. وقال بعضهم: الاستواء: هو العلوّ، والعلوّ: هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس. حدثت بذلك عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع بن أنس: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ} يقول: ارتفع إلى السماء.
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع في الذي استوى إلى السماء، فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها: هو خالقها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء.
قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه:
1- منها انتهاء شباب الرجل وقوّته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل،
2- ومنها استقامة ما كان فيه أَوَدٌ من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له... بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيم:
طالَ على رَسْمٍ مَهْدَدٍ أبَدُهْ... وعَفا واسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ... يعني: استقام به.
3- ومنها الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه.
4- ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها.
5- ومنها العلوّ والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوّه عليه.
وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السماءِ فَسَوَّاهُنْ} علا عليهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهنّ سبع سموات.
والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ} الذي هو بمعنى العلوّ والارتفاع هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفوهم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه. فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى} أقْبَلَ، أفكان مدبراً عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الآخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولاً لقول أهل الحقّ فيه مخالفاً، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إنه شاء الله تعالى.
2- تفسير البحر المحيط لأبي حيان:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
الاستواء: الاعتدال والاستقامة، استوى العود وغيره: إذا استقام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء، والتسوية: التقويم والتعديل.
ثم قال:
ومعنى (جميعاً) العموم. فهو مرادف من حيث المعنى للفظة (كل) كأنه قيل: ما في الأرض كله، ولا تدل على الاجتماع في الزمان، وهذا هو الفارق بين معاً وجميعاً.
والعطف بثم يقتضي التراخي في الزمان، ولا زمان إذ ذاك،
فقيل: أشار بثم إلى التفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر،
وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم، إذ بين خلق الأرض والاستواء تراخ يدل على ذلك: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ} ، الآية.
ثم قال عند شرح (استوى) :
(وفي الاستواء هنا سبعة أقوال) :
أحدها: أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، وهو استعارة من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء، قال معناه الفراء، واختاره الزمخشري، وبين ما الذي استعير منه.
الثاني: علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد، قاله الربيع بن أنس، والتقدير: علا أمره وسلطانه، واختاره الطبري.
لثالث: أن يكون إلى بمعنى على، أي استوى على السماء، أي تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكاً لخلقه، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم... تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق... من غير سيف ودم مهراق.
الرابع: أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها، والاستواء هو الاستقرار، فيكون ذلك على حذف مضاف، أي ثم استوى أمره إلى السماء، أي استقر لأن أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء، قاله الحسن البصري.
والخامس: أن المعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء، قاله ابن كيسان، ويؤول المعنى إلى القول الأول.
السادس: أن المعنى كمل صنعه فيها، كما تقول: استوى الأمر، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه.
السابع: أن الضمير في استوى عائد على الدخان، وهذا بعيد جدًّا يبعده قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِىَ دُخَانٌ} ، واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور، ولا يفسره سياق الكلام.
وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش، إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف أهل العلم في أيهما خلق قبل، فمنهم من قال: السماء خلقت قبل الأرض، ومنهم من قال: الأرض خلقت قبل السماء، وكل تعلق في الاستدلال بظواهر آيات يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعاً لا غير، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء، وخلقت السماء بعدها، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات.
{شَىْء} : قد تقدم اختلاف الناس في مدلول شيء. فمن أطلقه على الموجود والمعدوم كان تعلق العلم بهما من هذه الآية ظاهراً، ومن خصه بالموجود فقط كان تعلق علمه تعالى بالمعدوم مستفاداً من دليل آخر غير هذه الآية.
{عَلِيمٌ} ؛ قد ذكرنا أنه من أمثلة المبالغة، وقد وصف تعالى نفسه بعالم وعليم وعلام، وهذان للمبالغة. وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في علامة، ولا يجوز وصفه به تعالى.
والمبالغة بأحد أمرين: أما بالنسبة إلى تكرير وقوع الوصف سواء اتحد متعلقه أم تكثر، وأما بالنسبة إلى تكثير المتعلق لا تكثير الوصف. ومن هذا الثاني المبالغة في صفات الله تعالى، لأن علمه تعالى واحد لا تكثير فيه، فلما تعلق علمه تعالى بالجميع كلية وجزئية دقيقة، وجليلة معدومة وموجودة، وصف نفسه تعالى بالصفة التي دلت على المبالغة، وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغة العلم، لأنه تقدم ذكر خلق الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي وغير ذلك من الإماتة والإحياء، وكل ذلك يدل على صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء.
وقال بعض الناس: العليم من كان علمه من ذاته، والعالم من كان علمه متعدياً من غيره، وهذا ليس بجيد لأن الله تعالى قد وصف نفسه بالعالم، ولم يكن علمه بتعلم. وفي تعميم قوله تعالى: {بكل شيء عليم رد على من زعم أن علم الله تعالى متعلق بالكليات لا بالجزئيات، تعالى الله عن ذلك. وقالوا: علم الله تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحداً يعلم به جميع المعلومات، وبأنه لا يتغير بتغيرها، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله، وبأنه تعالى لا يشغله علم عن علم، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية. وفي قولهم لا يشغله علم عن علم، يريدون، معلوم عن معلوم، لأنه قد تقدم أن علم الله واحد ولا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر.
3- تفسير الجامع لأحكام القرأن للقرطبي:
الخامسة: قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى} «ثم» لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه.
والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلوّ على الشيء؛ قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (المؤمنون: 28) ، وقال {لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ} (الزخرف: 13) ، وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفَيْفاء قَفرة... وقد حلّق النجم اليمانيّ فاستوى: أي ارتفع وعلا، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قِمّة رأسي، بمعنى علا.
وهذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه:
1- قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها؛ وذهب إليه كثير من الأئمة، وهذا كما روي عن مالك رحمه الله أن رجلاً سأله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سَوْء أخرجوه.
2- وقال بعضهم: نقرؤها ونفسّرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبّهة.
3- وقال بعضهم: نقرؤها ونتأوّلها ونُحيل حَمْلها على ظاهرها.
وقال الفرّاء في قوله عزّ وجلّ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ} قال: الاستواء في كلام العرب على وجهين:
1- أحدهما: أن يَسْتَوِي الرجل وينتهي شبابه وقوته،
2- أو يستوي عن اعوجاج. فهذان وجهان.
3- ووجه ثالث أن تقول: كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ وإليّ يشاتمني. على معنى أقبل إليّ وعليّ. فهذا معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} والله أعلم.
قال- اي الفرّاء- وقد قال إبن عباس: ثم استوى إلى السماء صعِد. وهذا كقولك: كان قاعداً فاستوى قائماً، وكان قائماً فاستوى قاعداً؛ وكل ذلك في كلام العرب جائز.
وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن عليّ بن الحسين: قوله: «استوى» بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء؛ والقصد هو الإرادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظة «ثم» تتعلق بالخلق لا بالإرادة. وأما ما حُكي عن ابن عباس فإنما أخذه - اي الفرّاء- عن تفسير الكلبيّ، والكلبيّ ضعيف. وقال سفيان بن عُيينة وابن كَيسان في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} : قصد إليها، أي بخلقه واختراعه، فهذا قول. وقيل: على دون تكييف ولا تحديد؛ واختاره الطبري. ويُذكر عن أبي العالية الرّياحيّ في هذه الآية أنه يقال: استوى بمعنى أنه ارتفع. قال البيهقي: ومراده من ذلك ـ والله أعلم ـ ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء. وقيل: إن المستوى الدخان. وقال ابن عطية: وهذا يأباه وصف الكلام. وقيل: المعنى استولى؛ كما قال الشاعر:
قد اسْتَوَى بِشْرٌ على العِراق... مِن غيرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراق
قال ابن عطية: وهذا إنما يجيء في قوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا} . قلت: قد تقدّم في قول الفرّاء عليّ وإليّ بمعنىً. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة «الأعراف» إن شاء الله تعالى. والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة.
4- تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل للبيضاوي:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} قصد إليها بإرادته، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء. وأصل الاستواء طلب السواء، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام. وقيل استوى أي: استولى ومَلَكَ، قال الشاعر:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاق... مِنْ غَير سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ
والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية، أو جهات العلو، و {ثُمَّ} لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ} لا للتراخي في الوقت، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى: {وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها، إلا أن تستأنف بدحاها مقدراً لنصب الأرض فعلاً آخر دل عليه {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ} مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر.
5- تفسير مفاتيح الغيب للرازي:
وأما قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} فيه مسائل:
المسألة الأولى: الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب وضده الإعوجاج ولما كان ذلك من صفات الأجسام، فالله تعالى يجب أن يكون منزهاً عن ذلك ولأن في الآية ما يدل على فساده لأن قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي التراخي ولو كان المراد من هذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلاً أولاً ولو كان حاصلاً أولاً لما كان متأخراً عن خلق ما في الأرض لكن قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي التراخي، ولما ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن الاستواء هو الاستقامة يقال استوى العود إذا قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلتفت إلى شيء آخر ومنه استعير قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زماناً ولم يقصد شيئاً آخر بعد خلقه الأرض.
ثم ذكر بيانه للمسالة الثانية:
أن قوله: «ثم» ليس للترتيب ههنا وإنما هو على جهة تعديد النعم، مثاله قول الرجل لغيره: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فكذا ههنا والله أعلم.
6- تفسير التفسير الكبير للقشيري:
قوله جلّ ذكره: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} . فالأكوان بقدرته استوت، لا أن الحق سبحانه بذاته - على مخلوق - استوى، وأَنَّى بذلك! والأحدية والصمدية حقه وما توهموه من جواز التخصيص بمكان فمحال ما توهموه، إذ المكان به استوى، لا الحق سبحانه على مكانٍ بذاته استوى.
7- تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} الاستواء: الاعتدال والاستقامة. يقال: استوى العود أي قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل أي قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} (فصلت: 11) ، أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر.
والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق.
8- تفسير بحر العلوم للسمرقندي:
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً} ، أي قدَّر خَلْقَهَا لأن الأشياء كلها لم تُخلق في ذلك الوقت، لأن الدواب وغيرها من الثمار التي في الأرض تخلق وقتاً بعد وقت، ولكن معناه قدَّر خلق الأشياء التي في الأرض.
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} هذه الآية من المشكلات؛ والناس في هذه الآية وما شاكلها على ثلاثة أوجه:
1- قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وهذا كما روي عن مالك بن أنس ــــ رحمه الله ــــ أن رجلاً سأله عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ، فقال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً فأخرجوه فطردوه، فإذا هو جهم بن صفوان.
2- وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهذا قول المشبهة.
وللتأويل في هذه الآية وجهان: أحدهما: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ، أي صعد أمره إلى السماء، وهو قوله: (كن فكان) ، وتأويل آخر وهو قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي أقبل إلى خلق السماء. فإن قيل: قد قال في آيةٍ أخرى {أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالاٌّرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: 27، 28،،30) فذكر في تلك الآية أن الأرض خلقت بعد السماء، وذكر في هذه الآية أن الأرض خلقت قبل السماء. الجواب عن هذا أن يقال: خلق الأرض قبل السماء وهي ربوة حمراء في موضع الكعبة، فلما خلق السماء بسط الأرض بعد خلق السماء فذلك قوله تعالى: {وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي بسطها.
9 - تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي:
وقوله تعالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} :
«ثُمَّ» هنا: لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر في نفسه،
و {اسْتَوَى} : قال قومٌ: معناه: علا دون كَيْفٍ، ولا تحديدٍ، هذا اختيار الطبريِّ، والتقديرُ: علا أمره وقدرته وسلطانه.
وقال ابن كَيْسَان: معناه: قصد إلى السماء أي: بخلقه، واختراعه،
والقاعدةُ في هذه الآية ونحوها منع النّقْلَة وحلولِ الحوادثِ، ويبقى استواءُ القدرةِ والسلطان.
و {فَسَوَّاهُنَّ} : قيل: جعلهن سواءً، وقيل: سوَّى سطوحَهُنَّ بالإملاس، وقال الثعلبيُّ: {فَسَوَّاهُنَّ} ، أي: خلقهن. انتهى. وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خُلِقَ قبل السماء، وذلك صحيحٌ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات هذه والتي في سورة «المُؤْمِنِ» ، وفي «النازعات» .
10- تفسير تفسير القرآن الكريم لإبن كثير:
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى دَلَالَة مَنْ خَلَقَهُمْ وَمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ أَنْفُسهمْ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَر مِمَّا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ خَلْق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَقَالَ " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات " أَيْ قَصَدَ إِلَى السَّمَاء وَالِاسْتِوَاء هَاهُنَا مُضَمَّن مَعْنَى الْقَصْد وَالْإِقْبَال لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِإِلَى فَسَوَّاهُنَّ أَيْ فَخَلَقَ السَّمَاء سَبْعًا وَالسَّمَاء هَاهُنَا اِسْم جِنْس فَلِهَذَا قَالَ " فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم " أَيْ وَعِلْمه مُحِيط بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ كَمَا قَالَ " أَلَا يَعْلَم مَنْ خَلَقَ " وَتَفْصِيل هَذِهِ الْآيَة فِي سُورَة حم فُصِّلَتْ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى " قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِي مِنْ فَوْقهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتهَا فِي أَرْبَعَة أَيَّام سَوَاء لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْع سَمَوَات فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلّ سَمَاءٍ أَمْرهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيح وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم " فَفِي هَذَا دَلَالَة عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى اِبْتَدَأَ بِخَلْقِ الْأَرْض أَوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَات سَبْعًا وَهَذَا شَأْن الْبِنَاء أَنْ يُبْدَأ بِعِمَارَةِ أَسَافِله ثُمَّ أَعَالِيه بَعْد ذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ الْمُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْد هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى " أَأَنْتُمْ أَشَدّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَال أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ " فَقَد قِيلَ إِنَّ ثُمَّ هَاهُنَا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَر عَلَى الْخَبَر لَا لِعَطْفِ الْفِعْل عَلَى الْفِعْل كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْل ذَلِكَ جَدّه
وَقِيلَ إِنَّ الدَّحْي كَانَ بَعْد خَلْق السَّمَاوَات وَالْأَرْض رَوَاهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس.
11- تفسير النكت والعيون للماوردي:
قوله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ} فيه ستة أقاويل:
أحدها: أن معنى قوله: {اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ} أي أقبل عليها، وهذا قول الفراء.
والثاني: معناه: عمد إليها، وقصد إلى خلقها.
والثالث: أنّ فِعْل الله تحوَّل إلى السماء، وهو قول المفضل.
والرابع: معناه: ثم استوى أمره وصنعه الذي صَنَعَ به الأشياء إلى السماء، وهذا قول الحسن البصري.
والخامس: معناه ثم استوت به السماء.
السادس: أن الاستواء والارتفاع والعلوَّ، وممن قال بذلك: الربيع بن أنس، ثم اختلف قائلو هذا التأويل في الذي استوى إلى السماء فعلا عليها على قولين:
أحدهما: أنه خالقها ومنشئها.
والثاني: أنه الدخان، الذي جعله الله للأرض سماءً
12- تفسير ارشاد العقل السليم لأبي السعود:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي قصَدَ إليها بإرادته ومشيئته قصداً سوياً بلا صارف يَلويه ولا عاطفٍ يَثنيه من إرادة خلقِ شيءٍ آخَرَ في تضاعيف خلقِها أو غير ذلك، مأخوذ من قولهم: استوى إليه كالسهم المُرْسل، وتخصيصُه بالذكر ههنا إما لعدم تحققِه في خلق السُفليات، لما رُوي مِنْ تخلّل خلقِ السموات بين خلقِ الأرضِ ودَحْوِها. عن الحسن رضي الله عنه: خلق الله تعالى الأرضَ في موضع بيتِ المقدس كهيئة الفِهْرِ عليها دخان يلتزقُ بها، ثم أصعدَ الدخانَ وخلق منه السمواتِ، وأمسك الفِهْرَ في موضعها، وبسَط منها الأرَضين. وذلك قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} وإما لإظهار كمالِ العنايةِ بإبداع العُلويات، وقيل: استوى: استولى وملك، والأولُ هو الظاهر، وكلمةُ (ثم) للإيذان بما فيه من المزِية والفضل على خلق السفليات لا للتراخي الزماني، فإن تقدّمَه على خلق ما في الأرض المتأخرِ عن دَحْوها مما لا مِريةَ فيه لقوله تعالى: {وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ولما رُوي عن الحسن، والمرادُ بالسماء إما الأجرامُ العلوية فإن القصدَ إليها بالإرادة لا يستدعي سابقةَ الوجود وإما جهاتُ العلو.
13- تفسير معالم التنزيل للبغوي:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} ، قال ابن عباس وأكثر مفسّري السلف: أي ارتفع إلى السماء، وقال ابن كيسان والفراء وجماعة من النحويين: أي أقبل على خلق السماء، وقيل: قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء، {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} : (أي) خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدوع.
14- تفسير زاد المسير في علم التفسير لإبن الجوزي:
قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا} أي: لأجلكم، فبعضه للانتفاع، وبعضه للاعتبار. {ثم استوى الى السماء} أي: عمد الى خلقها، والسماء: لفظها لفظ الواحد، ومعناها، معنى الجمع، بدليل قوله: {فسواهن} .
15- تفسير تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي:
{هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ} أي: الأرض وما فيها {جَمِيعاً} لتنتفعوا به وتعتبروا {ثُمَّ اسْتَوَى} بعد خلق الأرض: أي قصد {إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ} الضمير يرجع إلى (السماء) لأنها في معنى الجملة الآيلة إليه أي صيرها كما في آية أخرى {فقضاهن [12:41] }
{سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} مجملاً ومفصلاً أفلا تعتبرون أنّ القادر على خلق ذلك ابتداء وهو أعظم منكم قادر على إعادتكم.
16- تفسير فتح القدير للشوكاني:
والاستواء في اللغة: الاعتدال، والاستقامة، قاله في الكشاف. ويطلق على الارتفاع، والعلوّ على الشيء.
وقد قيل: إن هذه الآية من المشكلات. وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها، وترك التعرّض لتفسيرها، وخالفهم آخرون
17- تفسير روح المعاني للألوسي:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد قاله الربيع أو قصد إليها بإرادته قصداً سوياً بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء قاله الفراء وقيل: استولى وملك كما في قوله:
فلما (علونا واستوينا عليهم) ... تركناهم صرعى لنسر وكاس
وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون {إِلَى} بمعنى على، وأيضاً الاستيلاء مؤخر عن وجود المستولي عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء فلا يقتضي تقدم الوجود، ولا يخفى ما فيه. والمراد بالسماء الاجرام العلوية أو جهة العلو. وثم قيل: للتراخي في الوقت، وقيل: لتفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على خلق الأرض.
18- تفسير التحرير والتنوير لإبن عاشور:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} . انتقال من الاستدلال بخلق الأرض وما فيها وهو مما علمه ضروري للناس، إلى الاستدلال بخلق ما هو أعظم من خلق الأرض وهو أيضاً قد يُغفل عن النظر في الاستدلال به على وجود الله، وذلك خلق السماوات، ويشبه أن يكون هذا الانتقال استطراداً لإكمال تنبيه الناس إلى عظيم القدرة. وعَطَفَتْ (ثُمَّ) جملةَ (استوى) على جملة {خَلَقَ لكم} . ولدلالة (ثُمَّ) على الترتيب والمهلة في عطف المفرد على المفرد كانت في عطف الجملة على الجملة للمهلة في الرتبة وهي مهلة تخييلية في الأصل تشير إلى أن المعطوف بثُم أعرق في المعنى الذي تتضمنه الجملة المعطوف عليها حتى كأنَّ العَقْل يتمهل في الوصول إليه بعد الكلام الأول فينتبه السامع لذلك كي لا يغفل عنه بما سمع من الكلام السابق، وشاع هذا الاستعمال حتى صار كالحقيقة، ويسمى ذلك بالترتيب الرتبي وبترتب الإخبار (بكسر الهمزة) كقوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فَكُّ رقبةٍ} (البلد: 11 ـــ 13) إلى أن قال: {ثم كان من الذين آمنوا} (البلد: 17) فإن قوله: {فَكُّ رقبة} خبرُ مبتدأ محذوف ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز إيفاؤها حقها مما يُغفل السامع عن أمر آخر عظيم نُبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى أنه آكد وأهم، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته:
جَنُوح دِفاق عَنْدَلٌ ثم أُفرِعَت... لَهَا كَتِفَاها في مُعَالىً مُصَعَّ
فإنه لما ذكر من محاسنها جملة نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها وهو طول قامتها.
قال المرزوقي في «شرح الحماسة» في شرح قول جَعفر بن عُلبة الحارثي:
لا يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّة يَرَى غَمَرَاتتِ المَوْتتِ ثم يزورها
إن ثم وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك وذكر قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} اهـ. وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدماً في الوجود وقد جاء في الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مراداً منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البَوْن المعنوي بالبعد المكاني أو الزماني ومنه قوله تعالى: {همَّاز مَشَّاءٍ بنَميم منَّاععٍ للخير مُعْتَد أثيم عُتُلّ بعدَ ذلك زنيم} (القلم: 11 ـــ 13) فإن كونه عُتُلا وزنيماً أسبق في الوجود من كونه همَّازاً مشَاء بنميم لأنهما صفتان ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم، وكذلك قوله تعالى: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالحُ المؤمنين والملائكةُ بعد ذلك ظهير} (التحريم: 4) .
فإذا تمحضت ثم للتراخي الرتبي حملت عليه وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول المرزوقي: «فإنه في عطف الجملة ليس كذلك» إنه لا يَحتمل حينئذٍ التراخي الزمني. ولكن يظهر جَواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخراً في الحصول على ما قبلها وهو مع ذلك أهم كما في بيت جعفر بن عُلبة. قلت وهو إما مجاز مرسل أو كناية، فإن ألقت (ثم) وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للبعيد، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردوداً. واعلم أني تتبعت هذا الاستعمال في مواضعه فرأيته أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخباراً عن مخبر عنه واحد بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن (ثم) تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم إلى قوله: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} (البقرة: 84، 85) أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ونحو قولك: مرت كتيبة الأنصار ثم مرت كتيبة المهاجرين. فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السماوات متأخراً خلقها عن خلق الأرض فثُم للتراخي الرتبي لا محالة مع التراخي الزمني وإن كان خلق السماوات سابقاً فثُم للترتيب الرتبي لا غير. والظاهر هو الثاني.
وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض....
والاستواء أصله الاستقامة وعدم الاعوجاج يقال صراط مستو، واستوى فلان وفلان واستوى الشيء مطاوع سواء، ويطلق مجازاً على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة كأنه يسير إليه مستوياً لا يلوي على شيء فيعدى بإلى فتكون (إلى) قرينة المجاز وهو تمثيل، فمعنى استواء الله تعالى إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها تعلقاً يشبه الاستواء في التهيىء للعمل العظيم المتقن. ووزن استوى افتعل لأن السين فيه حرف أصلي وهو افتعال مجازي وفيه إشارة إلى أنه لما ابتدأ خلق المخلوقات خلق السماوات ومن فيها ليكون توطئة لخلق الأرض ثم خلق الإنسان وهو الذي سيقت القصة لأجله.
تفسير ايات الاستواء
الاية الثانية: في سورة الاعراف رقم 54
1- تفسير جامع البيان في تفسير القرآن للطبري:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
{ثُمَّ اسْتَوَى على العَرْشِ}
وقد ذكرنا معنى الاستواء واختلاف الناس فيه فيما مضى قبل لما أغنى عن إعادته.
2- تفسير البحر المحيط لأبي حيان:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي} لما ذكر تعالى أشياء من مبدأ خلق الإنسان وأمر نبيّه وانقسام إلى مؤمن وكافر وذكر معادهم وحشرهم إلى جنة ونار ذكر مبدأ العالم واختراعه والتنبيه على الدلائل الدالّة على التوحيد وكما القدرة والعلم والقضاء ثم بعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقدير المسائل الأربع التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة.....
وأما استواؤه على العرش:
1- فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم
2- والجمهور من السّلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم في أحاديث الصفات على الإيمان بها وإمرارها على ما أراد الله تعالى من غير تعيين مراد
3- وقوم تأوّلوا ذلك على عدّة تأويلات.
وقال سفيان الثوري فعل فعلاً في العرش سماه استواء وعن أبي الفضل بن النحوي أنه قال {الْعَرْشِ} مصدر عرش يعرش عرشاً والمراد بالعرش في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} هذا وهذا ينبو عنه ما تقرر في الشريعة من أنه جسم مخلوق معين.
ومسألة الاستواء مذكورة في علم أصول الدين وقد أمعن في تقرير ما يمكن تقريره فيها القفال وأبو عبد الله الرازي وذكر ذلك في التحرير فيطالع هناك.
ولفظة {الْعَرْشِ} مشتركة بين معان كثيرة:
1- فالعرش سرير الملك ومنه (ورفع أبويه على العرش) (نكروا لها عرشها) .
2- و {الْعَرْشِ} السّقف وكل ما علا وأظل فهو عرش.
3- و {الْعَرْشِ} الملك والسلطان والعزّ، وقال زهير:
تداركتما عبساً وقد ثل عرشها... وذبيان إذ زلّت بأقدامها النعل
وقال آخر:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
4- والعرش الخشب الذي يطوى به البئر بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة.
5- والعرش أربعة كواكب صغار أسفل من العواء يقال لها: عجز الأسد ويسمّى عرش السّماك
6-... والعرش ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع.
واستوى أيضاً يستعمل
1- بمعنى استقرّ
2- وبمعنى علا
3- وبمعنى قصد
4- وبمعنى ساوى
5- وبمعنى تساوى
6-وقيل بمعنى استولى وأنشدوا:
هما استويا بفضلهما جميعا... على عرش الملوك بغير زور
وقال ابن الأعرابي لا نعرف استوى بمعنى استولى والضمير في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يحتمل أن يعود على المصدر الذي دلّ عليه خلق ثم استوى خلقه على العرش وكذلك في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لا يتعين حمل الضمير في قوله استوى على الرحمن إذ يحتمل أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف والضمير في {اسْتَوَى} عائد على الخلق المفهوم من قوله {تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الاْرْضَ وَالسَّمَواتِ الْعُلَى} أي هو الرحمن استوى خلقه على العرش لأنه تعالى لما ذكر خلق السموات والأرض ذكر خلق ما هو أكبر وأعظم وأوسع من السموات والأرض ومع الاحتمال في العرش وفي استوى وفي الضمير العائد لا يتعيّن حمل الآية على ظاهرها هذا مع الدلائل العقلية التي أقاموها على استحالة ذلك. وقال الحسن استوى أمره وسأل مالك بن أنس رجل عن هذه الآية فقال: كيف استوى فأطرق رأسه مليّاً وعلّته الرخصاء ثم قال: الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج.
3- تفسير الجامع لأحكام القرأن للقرطبي:
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} هذه مسألة الاستواء؛ وللعلماء فيها كلام وإجراء.
وقد بينا أقوال العلماء فيها في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى) وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولاً. والأكثر من المتقدّمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيّز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدّمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم؛ لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث.
والاستواء في كلام العرب هو:
1-... العلوّ والاستقرار. قال الجوهريّ: واستوى من اعوجاج، واستوى على ظهر دابته؛ أي استقرّ.
2-... واستوى إلى السماء أي قصد.
3- واستوى أي استولى وظهر. قال:
قد استوى بِشرٌ على العِراق... من غير سيف ودمٍ مهراق
4- واستوى الرجل أي انتهى شبابه.
5- واستوى الشيء إذا اعتدل. وحكى أبو عمر بن عبد البر عن أبي عبيدة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال: علا. وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفَيْفَاء قفْرَةٍ... وقد حَلّق النجمُ اليمانِيّ فاستَوَى
أي علا وارتفع. قلت: فعلوّ الله تعالى وارتفاعه عبارة عن علوّ مجده وصفاته وملكوته. أي ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد، ولا معه من يكون العلوّ مشتركاً بينه وبينه؛ لكنه العليّ بالإطلاق سبحانه.
قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ} لفظ مشترك يطلق على أكثر من واحد.
1- قال الجوهري وغيره: العرش سرير الملِك. وفي التنزيل {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} (النمل: 41) ، {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} (يوسف: 100) .
2- والعرش: سقف البيت.
3- وعرش القدم: ما نتأ في ظهرها وفيه الأصابع.
4- وعرش السِّماك: أربعة كواكب صغار أسفل من العَوّاء، يقال: إنها عَجُز الأسد.
5- وعرش البئر: طيُّها بالخشب، بعد أن يُطْوَى أسفلها بالحجارة قدر قامة؛ فذلك الخشب هو العرش،
والجمع عروش.
6- والعرش اسم لمَكَّة.
7- والعرش الملك والسلطان. يقال: ثُلّ عرش فلان إذا ذهب ملكه وسلطانه وعزّه. قال زهير:
تداركتما عَبْساً وقد ثُلَّ عَرْشُهَا... وذُبْيَانُ إذ ذَلّتْ بأقدامها النّعْل
وقد يؤوّل العرش في الآية بمعنى المُلْك، أي ما استوى المُلْك إلا له جل وعز. وهو قول حَسَن وفيه نظر، وقد بيّناه في جملة الأقوال في كتابنا. والحمد لله.
4- تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل للبيضاوي:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي في ستة أوقات كقوله: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أو في مقدار ستة أيام، فإن المتعارف باليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ، وفي خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استوى أمره أو استولى، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله بلا كيف، والمعنى: أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن، والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه، أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك.
5- تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي:
{ثمّ استوى} استولى {على العرش} أضاف الاستيلاء إلى العرش وإن كان سبحانه وتعالى مستولياً على جميع المخلوقات، لأن العرش أعظمها وأعلاها. وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقرار كما تقوله المشبهة باطل، لأنه تعالى كان قبل العرش ولا مكان وهو الآن كما كان، لأن التغير من صفات الأكوان. والمنقول عن الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهم، أن الاستواء معلوم، والتكييف غير معقول، والإيمان به واجب، والجحود له كفر، والسؤال عنه بدعة.
6- تفسير بحر العلوم للسمرقندي:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال بعضهم: هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. وذكر عن يزيد بن هارون أنه سئل عن تأويله فقال تأويله: الإيمان به. وذكر أن رجلاً دخل على مالك بن أنس فسأله عن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فقال: الاستواء غير مجهول والكيفية غير معقولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً. فأخرجوه. وذكر عن محمد بن جعفر نحو هذا.
وقد تأوله بعضهم وقال {ثُمَّ} بمعنى الواو فيكون على معنى الجمع والعطف، لا على معنى التراخي والترتيب.
ومعنى قوله: {اسْتَوَى} أي استولى، كما يقال فلان استوى على بلد كذا يعني: استولى عليه فكذلك هذا. معناه: خالق السموات والأرض، ومالك العرش.
ويقال: ثم صعد أمره إلى العرش. وهذا معنى قول ابن عباس. قال صعد على العرش. يعني: أمره، ويقال قال له: كن فكان،
ويقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي كان فوق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض، ويكون {عَلَى} بمعنى العلو والارتفاع، ويقال استوى يعني استولى.
وذكر أن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ثم اللوح. فأمر القلم بأن يكتب في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة. ثم خلق ما شاء. ثم خلق العرش ثم حملة العرش ثم خلق السموات والأرض.
وإنما خلق العرش لا لحاجة نفسه ولكن لأجل عباده ليعلموا أين يتوجهون في دعائهم لكي لا يتحيّروا في دعائهم، كما خلق الكعبة علماً لعبادتهم، ليعلموا إلى أين يتوجهون في العبادة. فكذلك خلق العرش علماً لدعائهم ليعلموا إلى أين يتوجهوا بدعائهم.
7- تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي:
وقوله سبحانه: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} معناه عند أبي المعالي وغيره من حُذَّاق المتكلمين: الملك، والسلطان، وخصّ العرش بالذِّكْرِ تشريفاً له؛ إذ هو أَعْظَمُ المخلوقات. وقوله سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ} «ألا» : استفتاح كلام. وأخذ المفسرون «الخَلْق» بمعنى المخلوقات، أي: هي كلها مِلْكُهُ، واختراعه
8 - تفسير تفسير القرآن الكريم لإبن كثير:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
وأما قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، لا يشبهه شيء من خلقه و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ} (الشورى: 11) بل الأمر كما قال الأئمة، منهم: نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري، قال: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى،
9- تفسير النكت والعيون للماوردي:
{ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} فيه قولان:
أحدهما: معناه استوى أمره على العرش، قاله الحسن.
والثاني: استولى على العرش، كما قال الشاعر:
قد اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ... مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودم مُهْرَاقٍ
وفي {الْعَرْشِ} ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه المُلْك كني عنه بالعرش والسرير كعادة ملوك الأرض في الجلوس على الأسر ة، حكاه ابن بحر.
والثاني: أنه السموات كلها لأنها سقف، وكل سقف عند العرب هو عرش، قال الله تعالى: {خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42] [الحج: 45] أي على سقوفها.
والثالث: أنه موضع في السماء في أعلاها وأشرفها، محجوب عن ملائكة السماء.
10- تفسير ارشاد العقل السليم لأبي السعود:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
أي استوى أمرُه واستولى وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفة الله تعالى بلا كيف والمعنى أنه تعالى استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن،
والعرشُ الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملِك فإن الأمورَ والتدابير تنزِل منه وقيل: الملك.
تفسير قول الله تعالى (الرحمن على العرش استوى)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
تَفسِيرُ الآيةِ: {الرحمن على العرش استوى} [5 سورة طه] .
مقدمة،
يَجِبُ أن يكونَ تفسيرُ هذه الآية بغيرِ الاستِقرارِ والجلوسِ ونحوِ ذلكَ ويَكفُر من يعتَقِدُ ذَلِكَ.
فالذي يعتقدُ أن معنى قولِ الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى) (5) } جَلَسَ أو استقرَ أو حاذَى العرشَ يَكفُر.
لذا يَجِبُ تَركُ الحَملِ على الَظاهِر بَل يُحَملُ على مَحْملٍ مُستَقيمٍ في العُقُول، ِ فتُحمَلُ لفظَةُ الاستِواءِ على القَهرِ، ففي لُغَةِ العَرَبِ يُقالُ: استَوى فُلانٌ على المَمَالِكِ إذا احتَوَى على مَقَالِيدِ المُلكِ واستَعلى على الرقَابِ. ومعنى ((واستعلى على الرقَابِ)) اي استولى على الأشخاصِ اي على أهل البلد ِ.
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَد اسْتَوَى بِشْرٌ علَى العِراقِ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ
(مهراق) تُلفظ القافُ المكسورة وكأَنَّ في ءاخرِها ياءً ولو لم تكن الياءُ مكتوبةً، والمعنى أنه سَيطَرَ على العراقِ ومَلَكَهَا من غير حَربٍ وإراقَةِ دِمَاءٍ.
فتفسير ءاية الاستواءَ:
1- إما أن تُأوّل تأويلاً إجماليًّا فيُقَالُ: اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ مَع تَنزِيْهِهِ عن اسْتِواءِ المخْلُوقِيْنَ كَالجُلوسِ والاسْتِقرارٍ، أو يقال: {الرحمن على العرش استوى} بلا كيف ٍ.
2- وإما أن تُأوّل تأويلاً تفصيليَا فيُقَالُ: (استوى) اي قَهَرَ، ويجوزُ أن يقولَ استولى.
فمَن شَاءَ قال: استوى استواءً يليقُ بهِ من غير أن يُفَسّرَهُ بالقهرِ أو نحوهِ فيكونُ أوَّل تأويلاً إجماليًّا، ومن شَاءَ قال: استوى أي قَهَرَ فيكونُ أوَّلَ تأويلاً تفصيليًّا.
ومعنى قًَهْر الله للعرشِ الذي هو أعظمُ المخلوقاتِ: أن العرشَ تحت تصرُّف الله هو خلقَهُ وهو يحفظهُ، يحفظُ عليهِ وجودهُ ولولا حفظُ الله تعالى له لهَوى إلى الأسفلِ فتحطَّمَ، فالله تعالى هو أوجدَهُ ثم هو حفظهُ وأبقاهُ، هذا معنى قَهَرَ العرشَ، هو سبحانَهُ قاهرُ العالم كلّه، هذه الشّمسُ والقمرُ والنّجومُ لولا أن الله يحفظُها على هذا النّظامِ الذي هي قائمةٌ عليه لكانت تهاوَت وحطَّم بعضُها بعضًا واختلَّ نظامُ العالمِ.
والإنسانُ قهرَهُ الله بالموتِ، أيُّ مَلِكٍ وأيُّ إنسانٍ رُزِقَ عمرًا طويلاً لا يملكُ لنفسِهِ أن يحميَ نفسَهُ من الموتِ فلا بدَّ أن يموتَ.
وليُعلَم أن الاستواءَ في لغةِ العربِ له خمسة عشرَ معنًى كما قالَ الحافظُ أبو بكر بن العربيّ ومن معانيهِ: الاستقرارُ والتَّمامُ والاعتدَال والاستعلاءُ والعلوُّ والاستيلاءُ وغير ذلك، ثم هذه المعاني بعضُها تليقُ بالله وبعصُها لا تليقُ بالله. فما كان من صفات الأجسام فلا يليق بالله.
يقولُ حسن البنّا رحمه الله تعالى في كتابِ العقائدِ الأسلاميَّةِ: (السَّلفُ والخلفُ ليس بينهم خلافٌ على أنه لا يجوزُ حملُ ءايةِ الاستواءِ على المعنى المتبادرِ) وهذا الكلام من جواهِرِ العلمِ.
فإن قالَ الوهَّابيُّ: {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] (على) أي فوق، يقالُ لهم: ماذا تقولونَ في قولِهِ تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة المجادلة 10] ؟ هل يفهمونَ من هذه الآية أن العبادَ فوق الله؟ فإن (على) تأتي لعلوّ القدرِ وللعلوّ الحِسّيّ، وقد قالَ الله تعالى مُخبرًا عن فرعون أنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [سورة النازعات24] أرادَ علوَّ القهرِ بقولِِهِ: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} .
وقد ذَكَرَ الإمامُ أبو منصورٍ الماتريديُّ في تأويلاتِهِ في قولِهِ تعالى {ثُمَّ استوى على العرش) [سورة الأعراف 54] يقولُ: (أي وقد استوى) ، ومعناهُ أنَّ الله كانَ مستويًا على العرشِ قبلَ وجودِ السمواتِ والأرضِ، وبعضُ الناس يتوهَّم من كلمة (ثم) أن الله استوى على العرشِ بعد أن لم يكن يظنُّونَ أن ثُمَّ دائمًا للتأخُّر، ويصحُّ في اللُّغة أن يقالَ أنا أعطيتُكَ يوم كذا كذا وكذا ثم إني أعطيتُكَ قبلَ ذلك كذا وكذا، فإن (ثم) ليست دائمًا للتَّأخُّرِ في الزَّمن، أحيانًا تأتي لذلكَ وأحيانًا تأتي لغيرِ ذلك، قال الشَّاعر:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ... ثُمّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
ويُروى عن أمّ سلمةَ إحدى زوجاتِ الرّسولِ ويروى عن سفيانَ بنِ عيينةَ ويروى عن مالكِ بن أنسٍ أنهم فسَّروا استواء الله على عرشِهِ بقولهم: الاستواءُ معلومٌ ولا يقالُ كيفٌ والكيفُ غيرُ معقولٍ.
ومعنى قولهم: (الاستواء معلومٌ) معناهُ معلومٌ ورودُهُ في القرءانِ أي بأنه مستوٍ على عرشِهِ استواءً يليقُ به. ومعنى: (والكيفُ غير معقولٍ) أي الشَّكلُ والهيئةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا غير معقولٍ أي لا يقبلُهُ العقلُ ولا تجوزُ على الله لأنها من صفات الأجسام.
وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه عن الاستواء فقال: (استوى كما أخبَرَ لا كما يَخطُرُ للبشرِ) .
وقد ثبَت عن الإمامِ مالكٍ بإسنادٍ قويّ جيدٍ أنه قال في استواء الله: (استوى كما وَصَفَ نفسَهُ ولا يقالُ كيف وكيف عنه مرفوعٌ) ، ولا يصحُّ عن مالكٍ ولا عن غيرِهِ من السلفِ أنه قال الاستواءُ معلومٌ والكيفيةُ مجهولةٌ، فهذه العبارةُ لم تَثبُت من حيثُ الإسنادُ عن أحدٍ من السلفِ، وهي موهِمَةٌ معنًى فاسدًا وهو أن استواءَ الله على العرشِ هو استواءٌ له هيئةٌ وشكلٌ لكن نحنُ لا نعلمُهُ وهذا خلافُ مرادِ السلفِ بقولهم: (والكيفُ غيرُ معقول) . وهذه الكلمةُ قالها بعض الأشاعرة مع تنزيهِهِم لله عن الجسميةِ والتحيزِ في المكان والجهةِ وهي كثيرةُ الدورانِ على ألسنةِ المشبهةِ والوهابيةِ لأنهم يعتقدونَ أن المرادَ بالاستواءِ الجلوسُ والاستقرارُ أي عند أغلبِهم وعندَ بعضِهم المحاذاةُ فوق العرش من غير مماسة، ولا يدرونَ أن هذا هو الكيفُ المنفيُّ عن الله عند السلفِ، ولا يُغْتَرُّ بوجودِ هذه العبارةِ في كتابِ إحياء علومِ الدينِ ونحوهِ ولا يريدُ مؤلفُهُ الغزاليُّ ما تفهمُهُ المشبهةُ لأنه مُصَرّحٌ في كتبِهِ بأن الله منزهٌ عن الجسميةِ والتحيزِ في المكانِ وعن الحَدّ والمقدارِ لأن الحدَّ والمقدارَ من صفاتِ المخلوقِ قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار} [سورة الرعد 8] . فالتحيز في المكان والجهة من صفات الحجم والله ليس حجمًا.
وما يوجد في بعض كتب الأشاعرة من هذه العبارة [الاستواء معلوم والكيفية مجهولة] غلطة لا أساس لها عن السلف لا عن مالك ولا عن غيره وهي شنيعة لأنها يفهم منها المشبه الوهابيّ وغيره أن الاستواء كيفٌ لكن لا نعلمه مجهول عندنا. وأما من أوردها من الأشاعرة فلا يفهمون هذا المعنى بل يفهمون أن حقيقة الاستواء غير معلوم للخلق فالوهابية تقصد بها ما يناسب معتقدها من أن الله حجم له حيّز. والعجب منهم كيف يقولون إنّ الاستواء على العرش حسيّ ثم يصفونه بالكون مجهولا. ولعلهم يريدون بهذا هل هو قعود على شكل تربيع أم على شكل ءاخر.
فإن قيلَ: لماذا قالَ الله تعالى بأنه استوى على العرشِ على حَسَبِ تفسيرِكم بمعنى قَهَر وهو قَاهرُ كلّ شئٍ؟ نقول لهم: أليسَ قال: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة 129] مع أنه ربُُّ كلّ شئٍ؟!
وفَائِدَةِ تَخْصِيص العَرْشِ بالذّكْرِ أنَّهُ أعْظَمُ مَخلُوقَاتِ الله تَعَالى حجمًا فيُعْلَمُ شُمُولُ ما دُوْنَه مِنْ بَابِ الأَوْلَى. قَالَ الإمَامُ عَلِيٌّ: (إنَّ الله تَعَالى خَلَقَ العَرْشَ إِظْهَارًا لقُدْرَتِهِ، ولمْ يَتّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ) . رواهُ الإمامُ المحدثُ الفقيهُ اللغويُّ أبو منصورٍ التميميُّ في كتابهِ التبصرة.
فإذا قلنا: "الله تعالى قهر العرش" معناهُ قَهَرَ كلَّ شئٍ وإنما خصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات حجمًا وهو محدود لا يعلم حده إلا الله.
وبئسَ معتقدُ ابن تيمية فإنه قال: "الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو" اهـ فيقال لمن يقول قوله هذا قد قلت الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو فقد شبهته بالعرش؛ فإنّ العرش محدود ولا يعلم حده إلا الله، فماذا يفيد قولكم في الله إن له حدًا لكن لا يعلم حده إلا هو؟
فإن قيلَ: كيفَ تقولونَ خَلقَهُ إظهارًا لقدرتِهِ ونحنُ لا نَراهُ؟
نقولُ: الملائكةُ الحافُّون حولَهُ يرونَهُ والملائكةُ لما ينظرونَ إلى عِظَمِ العرشِ يزدادونَ خوفًا ويزدادونَ عِلمًا بكمالِ قدرةِ الله، لهذا خَلَقَ الله العرشَ. وقولُ سيدنا علي الذي مرّ ذكره رواهُ الإمام أبو منصورٍ البغداديُّ في كتابه التبصرة.
وليعلم أَنَّه يَجِبُ الحَذَرُ مِنْ هؤلاءِ الذينَ يُجِيزُوْنَ علَى الله القُعُودَ علَى العَرْشِ والاسْتِقْرارِ عليه مُفَسّرينَ لِقَوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] بالجُلُوسِ أو المحاذاةِ من فوق.
وهؤلاءِ هم الوهّابيّةُ في عصرنا هذا وقَبلهم أناسٌ كانوا يعتقدونَ ذلكَ كالكرامية اسلاف هؤلاء الوهّابيّةُ ففسَّروا الآيةَ بالجلوسِ فقالوا: الله تعالى قاعدٌ على العرشِ، هؤلاءِ يجبُ الحَذَرُ منهم.
هؤلاء يحتجون بقولهم أَنَّه لا يُعقَلُ مَوْجُودٌ إلا في مَكَانٍ، يقولون: كيفَ يكونُ موجودٌ بلا مكانٍ، والموجودُ لا بدَّ له من مكانٍ، الله موجود إذًا له مكانٌ، وحجَّتُهم هذِهِ داحضةٌ باطلةٌ؛ لأنهُ ليسَ من شرطِ الوجودِ التحيزُ في المكانِ أليسَ الله كان موجودًا قبل المكانِ والزمانِ وكلّ ما سواهُ بشهادةِ حديثِ: (كان الله ولم يكن شئٌ غيرُهُ) فالمكانُ غيرُ الله والجهاتُ الحجمُ غيرُ الله فإذًا صحَّ وجودُهُ تعالى شرعًا وعقلاً قبلَ المكانِ والجهاتِ بلا مكانٍ ولا جهةٍ، فكيفَ يستحيلُ على زعم هؤلاءِ وجودُهُ تعالى بلا مكانٍ بعد خلقِ المكانِ والجهاتِ؟!! . ومصيبةُ هؤلاءِ أنهم قاسوا الخالقَ على المخلوقِ؛ قالوا: كما لا يُعقَلُ وجودُ إنسانٍ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلكَ من الأجسامِ بلا مكانٍ يستحيلُ وجودُ الله بلا مكانٍ فَهَلَكوا.
وزعموا أيضًا أنَّ قَوْلَ السَّلَفِ استوى بلا كَيْفٍ مُوافِقٌ لذَلِكَ وَلم يَدْرُوا أنَّ الكَيْفَ الذي نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الجُلُوسُ والاسْتِقْرارُ والتّحَيُّزُ إلى المَكَانِ والمُحَاذاةُ وكلُّ الهيئاتِ من حركةٍ وسكونٍ وانفعَالٍ.
فالمحاذاةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا الكيفُ الذي نفاهُ السَّلفُ الذين قالوا في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] استوى بلا كيفٍ، ومرادُهُم بقولهم بلا كيفٍ ليسَ استواءَ الجلوسِ والاستقرارِ والمحاذاةِ. المحاذاةُ معناهُ كونُ الشّئِ في مقابلِ شئٍ، فنحنُ حينَ نكونُ تحتَ سطحٍ فنحنُ في محاذاتِهِ، وحينَ نكونُ في الفضاءِ نكونُ في محاذاةِ السماءِ، والسماءُ الأولى تحاذي السماءَ التي فوقَها، والكرسيُّ يحاذي العرشَ، والعرش يحاذي الكرسيّ من تحت، والله تَعَالَى لا يجوزُ عليهِ أن يكونَ مضطجِعًا عليهِ ولا أن يكونَ في محاذاتِهِ، إذ المحاذي إما أن يكونَ مساويًا للمحاذَى وإما أن يكونَ أكبر منهُ وإما أن يكونً أصغر منهُ، وكلُّ هذا لا يصحُّ إلا للشّئ الذي له جِرمٌ ومساحةٌ والذي له جِرمٌ ومساحةٌ محتاجٌ إلى من رَكَّبَهُ، والله منزَّهٌ عن ذلك، سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا.
الايات التي فيها كلمة (استوى) مضافة الى الله تعالى :
(1) : (2 - 29 البقرة)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(2) : (7 - 54 الأعراف)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
(3) : (10 - 03 يونس)
) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
(4) : (13 - 02 الرعد)
) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
(5) : (20 - 05 طه)
) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)
(6) : (25 - 59 الفرقان)
) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً)
(7) : (32 -04السجدة)
) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ)
(8) : (41-11 فصلت)
) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)
(9) : (- 04 الحديد)
) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير)
الايات التي فيها كلمة (استوى) مضافة الى المخلوق:
(10) : (23 - 28 المؤمنون)
) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
(11) : (28 - 14القصص)
) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)
(12) : (43 - 13 الزخرف)
) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)
(13) : (48 -29 الفتح)
) مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)
(14) : (53 - 06 النجم)
) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى)
تفسير ايات الاستواء
الاية الاولى في سورة البقرة رقم 29
: قال المفسرون
1- تفسير جامع البيان في تفسير القرآن للطبري
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُم اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوات}
قال أبو جعفر: اختلف في تأويل قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ}
1. فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء، أقبل عليها، كما تقول: كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني واستوى إليّ يشاتمني، بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستشهد على أن الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر:
أقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنا شَرَوْرَى... سَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ... فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضَّجوع، وكان ذلك عنده بمعنى أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ، وإنما معنى قوله: «واستوين من الضجوع» عندي: استوين على الطريق من الضجوع خارجات، بمعنى استقمن عليه.
2. وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحوّل إلى الشام، إنما يريد تحوّل فعله.
3. وقال بعضهم: قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ} يعني به: استوت، كما قال الشاعر:
أقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى في تُرَابِهِ... على أيّ دِينٍ قَبَّلَ الرأسَ مُصْعَبُ
4. وقال بعضهم: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ} : عمد إليها. وقال: بل كل تارك عملاً كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه.
5. وقال بعضهم: الاستواء: هو العلوّ، والعلوّ: هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس. حدثت بذلك عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع بن أنس: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ} يقول: ارتفع إلى السماء.
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع في الذي استوى إلى السماء، فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها: هو خالقها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء.
قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه:
1- منها انتهاء شباب الرجل وقوّته، فيقال إذا صار كذلك: قد استوى الرجل،
2- ومنها استقامة ما كان فيه أَوَدٌ من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره: إذا استقام له... بعد أود. ومنه قول الطرماح بن حكيم:
طالَ على رَسْمٍ مَهْدَدٍ أبَدُهْ... وعَفا واسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ... يعني: استقام به.
3- ومنها الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه.
4- ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها.
5- ومنها العلوّ والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوّه عليه.
وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السماءِ فَسَوَّاهُنْ} علا عليهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهنّ سبع سموات.
والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ} الذي هو بمعنى العلوّ والارتفاع هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفوهم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه. فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى} أقْبَلَ، أفكان مدبراً عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الآخر مثله، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولاً لقول أهل الحقّ فيه مخالفاً، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إنه شاء الله تعالى.
2- تفسير البحر المحيط لأبي حيان:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
الاستواء: الاعتدال والاستقامة، استوى العود وغيره: إذا استقام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء، والتسوية: التقويم والتعديل.
ثم قال:
ومعنى (جميعاً) العموم. فهو مرادف من حيث المعنى للفظة (كل) كأنه قيل: ما في الأرض كله، ولا تدل على الاجتماع في الزمان، وهذا هو الفارق بين معاً وجميعاً.
والعطف بثم يقتضي التراخي في الزمان، ولا زمان إذ ذاك،
فقيل: أشار بثم إلى التفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر،
وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركة فيها وتقدير الأقوات عطف بثم، إذ بين خلق الأرض والاستواء تراخ يدل على ذلك: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ} ، الآية.
ثم قال عند شرح (استوى) :
(وفي الاستواء هنا سبعة أقوال) :
أحدها: أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، وهو استعارة من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء، قال معناه الفراء، واختاره الزمخشري، وبين ما الذي استعير منه.
الثاني: علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد، قاله الربيع بن أنس، والتقدير: علا أمره وسلطانه، واختاره الطبري.
لثالث: أن يكون إلى بمعنى على، أي استوى على السماء، أي تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكاً لخلقه، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم... تركناهم صرعى لنسر وكاسر
ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق... من غير سيف ودم مهراق.
الرابع: أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها، والاستواء هو الاستقرار، فيكون ذلك على حذف مضاف، أي ثم استوى أمره إلى السماء، أي استقر لأن أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء، قاله الحسن البصري.
والخامس: أن المعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء، قاله ابن كيسان، ويؤول المعنى إلى القول الأول.
السادس: أن المعنى كمل صنعه فيها، كما تقول: استوى الأمر، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه.
السابع: أن الضمير في استوى عائد على الدخان، وهذا بعيد جدًّا يبعده قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِىَ دُخَانٌ} ، واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور، ولا يفسره سياق الكلام.
وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش، إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف أهل العلم في أيهما خلق قبل، فمنهم من قال: السماء خلقت قبل الأرض، ومنهم من قال: الأرض خلقت قبل السماء، وكل تعلق في الاستدلال بظواهر آيات يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعاً لا غير، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء، وخلقت السماء بعدها، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبهذا يحتمل الجمع بين الآيات.
{شَىْء} : قد تقدم اختلاف الناس في مدلول شيء. فمن أطلقه على الموجود والمعدوم كان تعلق العلم بهما من هذه الآية ظاهراً، ومن خصه بالموجود فقط كان تعلق علمه تعالى بالمعدوم مستفاداً من دليل آخر غير هذه الآية.
{عَلِيمٌ} ؛ قد ذكرنا أنه من أمثلة المبالغة، وقد وصف تعالى نفسه بعالم وعليم وعلام، وهذان للمبالغة. وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في علامة، ولا يجوز وصفه به تعالى.
والمبالغة بأحد أمرين: أما بالنسبة إلى تكرير وقوع الوصف سواء اتحد متعلقه أم تكثر، وأما بالنسبة إلى تكثير المتعلق لا تكثير الوصف. ومن هذا الثاني المبالغة في صفات الله تعالى، لأن علمه تعالى واحد لا تكثير فيه، فلما تعلق علمه تعالى بالجميع كلية وجزئية دقيقة، وجليلة معدومة وموجودة، وصف نفسه تعالى بالصفة التي دلت على المبالغة، وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغة العلم، لأنه تقدم ذكر خلق الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي وغير ذلك من الإماتة والإحياء، وكل ذلك يدل على صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء.
وقال بعض الناس: العليم من كان علمه من ذاته، والعالم من كان علمه متعدياً من غيره، وهذا ليس بجيد لأن الله تعالى قد وصف نفسه بالعالم، ولم يكن علمه بتعلم. وفي تعميم قوله تعالى: {بكل شيء عليم رد على من زعم أن علم الله تعالى متعلق بالكليات لا بالجزئيات، تعالى الله عن ذلك. وقالوا: علم الله تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحداً يعلم به جميع المعلومات، وبأنه لا يتغير بتغيرها، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله، وبأنه تعالى لا يشغله علم عن علم، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية. وفي قولهم لا يشغله علم عن علم، يريدون، معلوم عن معلوم، لأنه قد تقدم أن علم الله واحد ولا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر.
3- تفسير الجامع لأحكام القرأن للقرطبي:
الخامسة: قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى} «ثم» لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه.
والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلوّ على الشيء؛ قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (المؤمنون: 28) ، وقال {لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ} (الزخرف: 13) ، وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفَيْفاء قَفرة... وقد حلّق النجم اليمانيّ فاستوى: أي ارتفع وعلا، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قِمّة رأسي، بمعنى علا.
وهذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه:
1- قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها؛ وذهب إليه كثير من الأئمة، وهذا كما روي عن مالك رحمه الله أن رجلاً سأله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سَوْء أخرجوه.
2- وقال بعضهم: نقرؤها ونفسّرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبّهة.
3- وقال بعضهم: نقرؤها ونتأوّلها ونُحيل حَمْلها على ظاهرها.
وقال الفرّاء في قوله عزّ وجلّ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ} قال: الاستواء في كلام العرب على وجهين:
1- أحدهما: أن يَسْتَوِي الرجل وينتهي شبابه وقوته،
2- أو يستوي عن اعوجاج. فهذان وجهان.
3- ووجه ثالث أن تقول: كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ وإليّ يشاتمني. على معنى أقبل إليّ وعليّ. فهذا معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} والله أعلم.
قال- اي الفرّاء- وقد قال إبن عباس: ثم استوى إلى السماء صعِد. وهذا كقولك: كان قاعداً فاستوى قائماً، وكان قائماً فاستوى قاعداً؛ وكل ذلك في كلام العرب جائز.
وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن عليّ بن الحسين: قوله: «استوى» بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء؛ والقصد هو الإرادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظة «ثم» تتعلق بالخلق لا بالإرادة. وأما ما حُكي عن ابن عباس فإنما أخذه - اي الفرّاء- عن تفسير الكلبيّ، والكلبيّ ضعيف. وقال سفيان بن عُيينة وابن كَيسان في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} : قصد إليها، أي بخلقه واختراعه، فهذا قول. وقيل: على دون تكييف ولا تحديد؛ واختاره الطبري. ويُذكر عن أبي العالية الرّياحيّ في هذه الآية أنه يقال: استوى بمعنى أنه ارتفع. قال البيهقي: ومراده من ذلك ـ والله أعلم ـ ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء. وقيل: إن المستوى الدخان. وقال ابن عطية: وهذا يأباه وصف الكلام. وقيل: المعنى استولى؛ كما قال الشاعر:
قد اسْتَوَى بِشْرٌ على العِراق... مِن غيرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراق
قال ابن عطية: وهذا إنما يجيء في قوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا} . قلت: قد تقدّم في قول الفرّاء عليّ وإليّ بمعنىً. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة «الأعراف» إن شاء الله تعالى. والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة.
4- تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل للبيضاوي:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} قصد إليها بإرادته، من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء. وأصل الاستواء طلب السواء، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء، ولا يمكن حمله عليه لأنه من خواص الأجسام. وقيل استوى أي: استولى ومَلَكَ، قال الشاعر:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاق... مِنْ غَير سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ
والأول أوفق للأصل والصلة المعدى بها والتسوية المترتبة عليه بالفاء، والمراد بالسماء هذه الأجرام العلوية، أو جهات العلو، و {ثُمَّ} لعله لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ} لا للتراخي في الوقت، فإنه يخالف ظاهر قوله تعالى: {وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فإنه يدل على تأخر دحو الأرض المتقدم على خلق ما فيها عن خلق السماء وتسويتها، إلا أن تستأنف بدحاها مقدراً لنصب الأرض فعلاً آخر دل عليه {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ} مثل تعرف الأرض وتدبر أمرها بعد ذلك لكنه خلاف الظاهر.
5- تفسير مفاتيح الغيب للرازي:
وأما قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} فيه مسائل:
المسألة الأولى: الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب وضده الإعوجاج ولما كان ذلك من صفات الأجسام، فالله تعالى يجب أن يكون منزهاً عن ذلك ولأن في الآية ما يدل على فساده لأن قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي التراخي ولو كان المراد من هذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلاً أولاً ولو كان حاصلاً أولاً لما كان متأخراً عن خلق ما في الأرض لكن قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي التراخي، ولما ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن الاستواء هو الاستقامة يقال استوى العود إذا قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلتفت إلى شيء آخر ومنه استعير قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زماناً ولم يقصد شيئاً آخر بعد خلقه الأرض.
ثم ذكر بيانه للمسالة الثانية:
أن قوله: «ثم» ليس للترتيب ههنا وإنما هو على جهة تعديد النعم، مثاله قول الرجل لغيره: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فكذا ههنا والله أعلم.
6- تفسير التفسير الكبير للقشيري:
قوله جلّ ذكره: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} . فالأكوان بقدرته استوت، لا أن الحق سبحانه بذاته - على مخلوق - استوى، وأَنَّى بذلك! والأحدية والصمدية حقه وما توهموه من جواز التخصيص بمكان فمحال ما توهموه، إذ المكان به استوى، لا الحق سبحانه على مكانٍ بذاته استوى.
7- تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} الاستواء: الاعتدال والاستقامة. يقال: استوى العود أي قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل أي قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} (فصلت: 11) ، أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر.
والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق.
8- تفسير بحر العلوم للسمرقندي:
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً} ، أي قدَّر خَلْقَهَا لأن الأشياء كلها لم تُخلق في ذلك الوقت، لأن الدواب وغيرها من الثمار التي في الأرض تخلق وقتاً بعد وقت، ولكن معناه قدَّر خلق الأشياء التي في الأرض.
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} هذه الآية من المشكلات؛ والناس في هذه الآية وما شاكلها على ثلاثة أوجه:
1- قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وهذا كما روي عن مالك بن أنس ــــ رحمه الله ــــ أن رجلاً سأله عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ، فقال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً فأخرجوه فطردوه، فإذا هو جهم بن صفوان.
2- وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهذا قول المشبهة.
وللتأويل في هذه الآية وجهان: أحدهما: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ، أي صعد أمره إلى السماء، وهو قوله: (كن فكان) ، وتأويل آخر وهو قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي أقبل إلى خلق السماء. فإن قيل: قد قال في آيةٍ أخرى {أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالاٌّرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: 27، 28،،30) فذكر في تلك الآية أن الأرض خلقت بعد السماء، وذكر في هذه الآية أن الأرض خلقت قبل السماء. الجواب عن هذا أن يقال: خلق الأرض قبل السماء وهي ربوة حمراء في موضع الكعبة، فلما خلق السماء بسط الأرض بعد خلق السماء فذلك قوله تعالى: {وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي بسطها.
9 - تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي:
وقوله تعالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} :
«ثُمَّ» هنا: لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر في نفسه،
و {اسْتَوَى} : قال قومٌ: معناه: علا دون كَيْفٍ، ولا تحديدٍ، هذا اختيار الطبريِّ، والتقديرُ: علا أمره وقدرته وسلطانه.
وقال ابن كَيْسَان: معناه: قصد إلى السماء أي: بخلقه، واختراعه،
والقاعدةُ في هذه الآية ونحوها منع النّقْلَة وحلولِ الحوادثِ، ويبقى استواءُ القدرةِ والسلطان.
و {فَسَوَّاهُنَّ} : قيل: جعلهن سواءً، وقيل: سوَّى سطوحَهُنَّ بالإملاس، وقال الثعلبيُّ: {فَسَوَّاهُنَّ} ، أي: خلقهن. انتهى. وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خُلِقَ قبل السماء، وذلك صحيحٌ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات هذه والتي في سورة «المُؤْمِنِ» ، وفي «النازعات» .
10- تفسير تفسير القرآن الكريم لإبن كثير:
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى دَلَالَة مَنْ خَلَقَهُمْ وَمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ أَنْفُسهمْ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَر مِمَّا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ خَلْق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَقَالَ " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات " أَيْ قَصَدَ إِلَى السَّمَاء وَالِاسْتِوَاء هَاهُنَا مُضَمَّن مَعْنَى الْقَصْد وَالْإِقْبَال لِأَنَّهُ عُدِّيَ بِإِلَى فَسَوَّاهُنَّ أَيْ فَخَلَقَ السَّمَاء سَبْعًا وَالسَّمَاء هَاهُنَا اِسْم جِنْس فَلِهَذَا قَالَ " فَسَوَّاهُنَّ سَبْع سَمَوَات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيم " أَيْ وَعِلْمه مُحِيط بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ كَمَا قَالَ " أَلَا يَعْلَم مَنْ خَلَقَ " وَتَفْصِيل هَذِهِ الْآيَة فِي سُورَة حم فُصِّلَتْ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى " قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِي مِنْ فَوْقهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتهَا فِي أَرْبَعَة أَيَّام سَوَاء لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اِسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْع سَمَوَات فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلّ سَمَاءٍ أَمْرهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيح وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم " فَفِي هَذَا دَلَالَة عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى اِبْتَدَأَ بِخَلْقِ الْأَرْض أَوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَات سَبْعًا وَهَذَا شَأْن الْبِنَاء أَنْ يُبْدَأ بِعِمَارَةِ أَسَافِله ثُمَّ أَعَالِيه بَعْد ذَلِكَ وَقَدْ صَرَّحَ الْمُفَسِّرُونَ بِذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْد هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى " أَأَنْتُمْ أَشَدّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْض بَعْد ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَال أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ " فَقَد قِيلَ إِنَّ ثُمَّ هَاهُنَا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَر عَلَى الْخَبَر لَا لِعَطْفِ الْفِعْل عَلَى الْفِعْل كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ... ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْل ذَلِكَ جَدّه
وَقِيلَ إِنَّ الدَّحْي كَانَ بَعْد خَلْق السَّمَاوَات وَالْأَرْض رَوَاهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس.
11- تفسير النكت والعيون للماوردي:
قوله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ} فيه ستة أقاويل:
أحدها: أن معنى قوله: {اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ} أي أقبل عليها، وهذا قول الفراء.
والثاني: معناه: عمد إليها، وقصد إلى خلقها.
والثالث: أنّ فِعْل الله تحوَّل إلى السماء، وهو قول المفضل.
والرابع: معناه: ثم استوى أمره وصنعه الذي صَنَعَ به الأشياء إلى السماء، وهذا قول الحسن البصري.
والخامس: معناه ثم استوت به السماء.
السادس: أن الاستواء والارتفاع والعلوَّ، وممن قال بذلك: الربيع بن أنس، ثم اختلف قائلو هذا التأويل في الذي استوى إلى السماء فعلا عليها على قولين:
أحدهما: أنه خالقها ومنشئها.
والثاني: أنه الدخان، الذي جعله الله للأرض سماءً
12- تفسير ارشاد العقل السليم لأبي السعود:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي قصَدَ إليها بإرادته ومشيئته قصداً سوياً بلا صارف يَلويه ولا عاطفٍ يَثنيه من إرادة خلقِ شيءٍ آخَرَ في تضاعيف خلقِها أو غير ذلك، مأخوذ من قولهم: استوى إليه كالسهم المُرْسل، وتخصيصُه بالذكر ههنا إما لعدم تحققِه في خلق السُفليات، لما رُوي مِنْ تخلّل خلقِ السموات بين خلقِ الأرضِ ودَحْوِها. عن الحسن رضي الله عنه: خلق الله تعالى الأرضَ في موضع بيتِ المقدس كهيئة الفِهْرِ عليها دخان يلتزقُ بها، ثم أصعدَ الدخانَ وخلق منه السمواتِ، وأمسك الفِهْرَ في موضعها، وبسَط منها الأرَضين. وذلك قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} وإما لإظهار كمالِ العنايةِ بإبداع العُلويات، وقيل: استوى: استولى وملك، والأولُ هو الظاهر، وكلمةُ (ثم) للإيذان بما فيه من المزِية والفضل على خلق السفليات لا للتراخي الزماني، فإن تقدّمَه على خلق ما في الأرض المتأخرِ عن دَحْوها مما لا مِريةَ فيه لقوله تعالى: {وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ولما رُوي عن الحسن، والمرادُ بالسماء إما الأجرامُ العلوية فإن القصدَ إليها بالإرادة لا يستدعي سابقةَ الوجود وإما جهاتُ العلو.
13- تفسير معالم التنزيل للبغوي:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} ، قال ابن عباس وأكثر مفسّري السلف: أي ارتفع إلى السماء، وقال ابن كيسان والفراء وجماعة من النحويين: أي أقبل على خلق السماء، وقيل: قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء، {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} : (أي) خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدوع.
14- تفسير زاد المسير في علم التفسير لإبن الجوزي:
قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا} أي: لأجلكم، فبعضه للانتفاع، وبعضه للاعتبار. {ثم استوى الى السماء} أي: عمد الى خلقها، والسماء: لفظها لفظ الواحد، ومعناها، معنى الجمع، بدليل قوله: {فسواهن} .
15- تفسير تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي:
{هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ} أي: الأرض وما فيها {جَمِيعاً} لتنتفعوا به وتعتبروا {ثُمَّ اسْتَوَى} بعد خلق الأرض: أي قصد {إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ} الضمير يرجع إلى (السماء) لأنها في معنى الجملة الآيلة إليه أي صيرها كما في آية أخرى {فقضاهن [12:41] }
{سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} مجملاً ومفصلاً أفلا تعتبرون أنّ القادر على خلق ذلك ابتداء وهو أعظم منكم قادر على إعادتكم.
16- تفسير فتح القدير للشوكاني:
والاستواء في اللغة: الاعتدال، والاستقامة، قاله في الكشاف. ويطلق على الارتفاع، والعلوّ على الشيء.
وقد قيل: إن هذه الآية من المشكلات. وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها، وترك التعرّض لتفسيرها، وخالفهم آخرون
17- تفسير روح المعاني للألوسي:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد قاله الربيع أو قصد إليها بإرادته قصداً سوياً بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء قاله الفراء وقيل: استولى وملك كما في قوله:
فلما (علونا واستوينا عليهم) ... تركناهم صرعى لنسر وكاس
وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون {إِلَى} بمعنى على، وأيضاً الاستيلاء مؤخر عن وجود المستولي عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء فلا يقتضي تقدم الوجود، ولا يخفى ما فيه. والمراد بالسماء الاجرام العلوية أو جهة العلو. وثم قيل: للتراخي في الوقت، وقيل: لتفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على خلق الأرض.
18- تفسير التحرير والتنوير لإبن عاشور:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} . انتقال من الاستدلال بخلق الأرض وما فيها وهو مما علمه ضروري للناس، إلى الاستدلال بخلق ما هو أعظم من خلق الأرض وهو أيضاً قد يُغفل عن النظر في الاستدلال به على وجود الله، وذلك خلق السماوات، ويشبه أن يكون هذا الانتقال استطراداً لإكمال تنبيه الناس إلى عظيم القدرة. وعَطَفَتْ (ثُمَّ) جملةَ (استوى) على جملة {خَلَقَ لكم} . ولدلالة (ثُمَّ) على الترتيب والمهلة في عطف المفرد على المفرد كانت في عطف الجملة على الجملة للمهلة في الرتبة وهي مهلة تخييلية في الأصل تشير إلى أن المعطوف بثُم أعرق في المعنى الذي تتضمنه الجملة المعطوف عليها حتى كأنَّ العَقْل يتمهل في الوصول إليه بعد الكلام الأول فينتبه السامع لذلك كي لا يغفل عنه بما سمع من الكلام السابق، وشاع هذا الاستعمال حتى صار كالحقيقة، ويسمى ذلك بالترتيب الرتبي وبترتب الإخبار (بكسر الهمزة) كقوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فَكُّ رقبةٍ} (البلد: 11 ـــ 13) إلى أن قال: {ثم كان من الذين آمنوا} (البلد: 17) فإن قوله: {فَكُّ رقبة} خبرُ مبتدأ محذوف ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز إيفاؤها حقها مما يُغفل السامع عن أمر آخر عظيم نُبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى أنه آكد وأهم، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته:
جَنُوح دِفاق عَنْدَلٌ ثم أُفرِعَت... لَهَا كَتِفَاها في مُعَالىً مُصَعَّ
فإنه لما ذكر من محاسنها جملة نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها وهو طول قامتها.
قال المرزوقي في «شرح الحماسة» في شرح قول جَعفر بن عُلبة الحارثي:
لا يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّة يَرَى غَمَرَاتتِ المَوْتتِ ثم يزورها
إن ثم وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك وذكر قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} اهـ. وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدماً في الوجود وقد جاء في الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مراداً منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البَوْن المعنوي بالبعد المكاني أو الزماني ومنه قوله تعالى: {همَّاز مَشَّاءٍ بنَميم منَّاععٍ للخير مُعْتَد أثيم عُتُلّ بعدَ ذلك زنيم} (القلم: 11 ـــ 13) فإن كونه عُتُلا وزنيماً أسبق في الوجود من كونه همَّازاً مشَاء بنميم لأنهما صفتان ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم، وكذلك قوله تعالى: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالحُ المؤمنين والملائكةُ بعد ذلك ظهير} (التحريم: 4) .
فإذا تمحضت ثم للتراخي الرتبي حملت عليه وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول المرزوقي: «فإنه في عطف الجملة ليس كذلك» إنه لا يَحتمل حينئذٍ التراخي الزمني. ولكن يظهر جَواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخراً في الحصول على ما قبلها وهو مع ذلك أهم كما في بيت جعفر بن عُلبة. قلت وهو إما مجاز مرسل أو كناية، فإن ألقت (ثم) وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للبعيد، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردوداً. واعلم أني تتبعت هذا الاستعمال في مواضعه فرأيته أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخباراً عن مخبر عنه واحد بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن (ثم) تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم إلى قوله: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} (البقرة: 84، 85) أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ونحو قولك: مرت كتيبة الأنصار ثم مرت كتيبة المهاجرين. فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السماوات متأخراً خلقها عن خلق الأرض فثُم للتراخي الرتبي لا محالة مع التراخي الزمني وإن كان خلق السماوات سابقاً فثُم للترتيب الرتبي لا غير. والظاهر هو الثاني.
وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض....
والاستواء أصله الاستقامة وعدم الاعوجاج يقال صراط مستو، واستوى فلان وفلان واستوى الشيء مطاوع سواء، ويطلق مجازاً على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة كأنه يسير إليه مستوياً لا يلوي على شيء فيعدى بإلى فتكون (إلى) قرينة المجاز وهو تمثيل، فمعنى استواء الله تعالى إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها تعلقاً يشبه الاستواء في التهيىء للعمل العظيم المتقن. ووزن استوى افتعل لأن السين فيه حرف أصلي وهو افتعال مجازي وفيه إشارة إلى أنه لما ابتدأ خلق المخلوقات خلق السماوات ومن فيها ليكون توطئة لخلق الأرض ثم خلق الإنسان وهو الذي سيقت القصة لأجله.
تفسير ايات الاستواء
الاية الثانية: في سورة الاعراف رقم 54
1- تفسير جامع البيان في تفسير القرآن للطبري:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
{ثُمَّ اسْتَوَى على العَرْشِ}
وقد ذكرنا معنى الاستواء واختلاف الناس فيه فيما مضى قبل لما أغنى عن إعادته.
2- تفسير البحر المحيط لأبي حيان:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي} لما ذكر تعالى أشياء من مبدأ خلق الإنسان وأمر نبيّه وانقسام إلى مؤمن وكافر وذكر معادهم وحشرهم إلى جنة ونار ذكر مبدأ العالم واختراعه والتنبيه على الدلائل الدالّة على التوحيد وكما القدرة والعلم والقضاء ثم بعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقدير المسائل الأربع التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة.....
وأما استواؤه على العرش:
1- فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم
2- والجمهور من السّلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم في أحاديث الصفات على الإيمان بها وإمرارها على ما أراد الله تعالى من غير تعيين مراد
3- وقوم تأوّلوا ذلك على عدّة تأويلات.
وقال سفيان الثوري فعل فعلاً في العرش سماه استواء وعن أبي الفضل بن النحوي أنه قال {الْعَرْشِ} مصدر عرش يعرش عرشاً والمراد بالعرش في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} هذا وهذا ينبو عنه ما تقرر في الشريعة من أنه جسم مخلوق معين.
ومسألة الاستواء مذكورة في علم أصول الدين وقد أمعن في تقرير ما يمكن تقريره فيها القفال وأبو عبد الله الرازي وذكر ذلك في التحرير فيطالع هناك.
ولفظة {الْعَرْشِ} مشتركة بين معان كثيرة:
1- فالعرش سرير الملك ومنه (ورفع أبويه على العرش) (نكروا لها عرشها) .
2- و {الْعَرْشِ} السّقف وكل ما علا وأظل فهو عرش.
3- و {الْعَرْشِ} الملك والسلطان والعزّ، وقال زهير:
تداركتما عبساً وقد ثل عرشها... وذبيان إذ زلّت بأقدامها النعل
وقال آخر:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
4- والعرش الخشب الذي يطوى به البئر بعد أن يطوى أسفلها بالحجارة.
5- والعرش أربعة كواكب صغار أسفل من العواء يقال لها: عجز الأسد ويسمّى عرش السّماك
6-... والعرش ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع.
واستوى أيضاً يستعمل
1- بمعنى استقرّ
2- وبمعنى علا
3- وبمعنى قصد
4- وبمعنى ساوى
5- وبمعنى تساوى
6-وقيل بمعنى استولى وأنشدوا:
هما استويا بفضلهما جميعا... على عرش الملوك بغير زور
وقال ابن الأعرابي لا نعرف استوى بمعنى استولى والضمير في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يحتمل أن يعود على المصدر الذي دلّ عليه خلق ثم استوى خلقه على العرش وكذلك في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لا يتعين حمل الضمير في قوله استوى على الرحمن إذ يحتمل أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف والضمير في {اسْتَوَى} عائد على الخلق المفهوم من قوله {تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الاْرْضَ وَالسَّمَواتِ الْعُلَى} أي هو الرحمن استوى خلقه على العرش لأنه تعالى لما ذكر خلق السموات والأرض ذكر خلق ما هو أكبر وأعظم وأوسع من السموات والأرض ومع الاحتمال في العرش وفي استوى وفي الضمير العائد لا يتعيّن حمل الآية على ظاهرها هذا مع الدلائل العقلية التي أقاموها على استحالة ذلك. وقال الحسن استوى أمره وسأل مالك بن أنس رجل عن هذه الآية فقال: كيف استوى فأطرق رأسه مليّاً وعلّته الرخصاء ثم قال: الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك إلا ضالاً ثم أمر به فأخرج.
3- تفسير الجامع لأحكام القرأن للقرطبي:
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} هذه مسألة الاستواء؛ وللعلماء فيها كلام وإجراء.
وقد بينا أقوال العلماء فيها في (الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى) وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولاً. والأكثر من المتقدّمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتحيّز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدّمين وقادتهم من المتأخرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة، فليس بجهة فوق عندهم؛ لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للمتحيز، والتغير والحدوث.
والاستواء في كلام العرب هو:
1-... العلوّ والاستقرار. قال الجوهريّ: واستوى من اعوجاج، واستوى على ظهر دابته؛ أي استقرّ.
2-... واستوى إلى السماء أي قصد.
3- واستوى أي استولى وظهر. قال:
قد استوى بِشرٌ على العِراق... من غير سيف ودمٍ مهراق
4- واستوى الرجل أي انتهى شبابه.
5- واستوى الشيء إذا اعتدل. وحكى أبو عمر بن عبد البر عن أبي عبيدة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال: علا. وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفَيْفَاء قفْرَةٍ... وقد حَلّق النجمُ اليمانِيّ فاستَوَى
أي علا وارتفع. قلت: فعلوّ الله تعالى وارتفاعه عبارة عن علوّ مجده وصفاته وملكوته. أي ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد، ولا معه من يكون العلوّ مشتركاً بينه وبينه؛ لكنه العليّ بالإطلاق سبحانه.
قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ} لفظ مشترك يطلق على أكثر من واحد.
1- قال الجوهري وغيره: العرش سرير الملِك. وفي التنزيل {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} (النمل: 41) ، {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} (يوسف: 100) .
2- والعرش: سقف البيت.
3- وعرش القدم: ما نتأ في ظهرها وفيه الأصابع.
4- وعرش السِّماك: أربعة كواكب صغار أسفل من العَوّاء، يقال: إنها عَجُز الأسد.
5- وعرش البئر: طيُّها بالخشب، بعد أن يُطْوَى أسفلها بالحجارة قدر قامة؛ فذلك الخشب هو العرش،
والجمع عروش.
6- والعرش اسم لمَكَّة.
7- والعرش الملك والسلطان. يقال: ثُلّ عرش فلان إذا ذهب ملكه وسلطانه وعزّه. قال زهير:
تداركتما عَبْساً وقد ثُلَّ عَرْشُهَا... وذُبْيَانُ إذ ذَلّتْ بأقدامها النّعْل
وقد يؤوّل العرش في الآية بمعنى المُلْك، أي ما استوى المُلْك إلا له جل وعز. وهو قول حَسَن وفيه نظر، وقد بيّناه في جملة الأقوال في كتابنا. والحمد لله.
4- تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل للبيضاوي:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي في ستة أوقات كقوله: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أو في مقدار ستة أيام، فإن المتعارف باليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ، وفي خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استوى أمره أو استولى، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله بلا كيف، والمعنى: أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن، والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه، أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك.
5- تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي:
{ثمّ استوى} استولى {على العرش} أضاف الاستيلاء إلى العرش وإن كان سبحانه وتعالى مستولياً على جميع المخلوقات، لأن العرش أعظمها وأعلاها. وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقرار كما تقوله المشبهة باطل، لأنه تعالى كان قبل العرش ولا مكان وهو الآن كما كان، لأن التغير من صفات الأكوان. والمنقول عن الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهم، أن الاستواء معلوم، والتكييف غير معقول، والإيمان به واجب، والجحود له كفر، والسؤال عنه بدعة.
6- تفسير بحر العلوم للسمرقندي:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال بعضهم: هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. وذكر عن يزيد بن هارون أنه سئل عن تأويله فقال تأويله: الإيمان به. وذكر أن رجلاً دخل على مالك بن أنس فسأله عن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فقال: الاستواء غير مجهول والكيفية غير معقولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً. فأخرجوه. وذكر عن محمد بن جعفر نحو هذا.
وقد تأوله بعضهم وقال {ثُمَّ} بمعنى الواو فيكون على معنى الجمع والعطف، لا على معنى التراخي والترتيب.
ومعنى قوله: {اسْتَوَى} أي استولى، كما يقال فلان استوى على بلد كذا يعني: استولى عليه فكذلك هذا. معناه: خالق السموات والأرض، ومالك العرش.
ويقال: ثم صعد أمره إلى العرش. وهذا معنى قول ابن عباس. قال صعد على العرش. يعني: أمره، ويقال قال له: كن فكان،
ويقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي كان فوق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض، ويكون {عَلَى} بمعنى العلو والارتفاع، ويقال استوى يعني استولى.
وذكر أن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ثم اللوح. فأمر القلم بأن يكتب في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة. ثم خلق ما شاء. ثم خلق العرش ثم حملة العرش ثم خلق السموات والأرض.
وإنما خلق العرش لا لحاجة نفسه ولكن لأجل عباده ليعلموا أين يتوجهون في دعائهم لكي لا يتحيّروا في دعائهم، كما خلق الكعبة علماً لعبادتهم، ليعلموا إلى أين يتوجهون في العبادة. فكذلك خلق العرش علماً لدعائهم ليعلموا إلى أين يتوجهوا بدعائهم.
7- تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي:
وقوله سبحانه: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} معناه عند أبي المعالي وغيره من حُذَّاق المتكلمين: الملك، والسلطان، وخصّ العرش بالذِّكْرِ تشريفاً له؛ إذ هو أَعْظَمُ المخلوقات. وقوله سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ} «ألا» : استفتاح كلام. وأخذ المفسرون «الخَلْق» بمعنى المخلوقات، أي: هي كلها مِلْكُهُ، واختراعه
8 - تفسير تفسير القرآن الكريم لإبن كثير:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
وأما قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، لا يشبهه شيء من خلقه و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ} (الشورى: 11) بل الأمر كما قال الأئمة، منهم: نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري، قال: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى،
9- تفسير النكت والعيون للماوردي:
{ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} فيه قولان:
أحدهما: معناه استوى أمره على العرش، قاله الحسن.
والثاني: استولى على العرش، كما قال الشاعر:
قد اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ... مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودم مُهْرَاقٍ
وفي {الْعَرْشِ} ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه المُلْك كني عنه بالعرش والسرير كعادة ملوك الأرض في الجلوس على الأسر ة، حكاه ابن بحر.
والثاني: أنه السموات كلها لأنها سقف، وكل سقف عند العرب هو عرش، قال الله تعالى: {خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42] [الحج: 45] أي على سقوفها.
والثالث: أنه موضع في السماء في أعلاها وأشرفها، محجوب عن ملائكة السماء.
10- تفسير ارشاد العقل السليم لأبي السعود:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
أي استوى أمرُه واستولى وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفة الله تعالى بلا كيف والمعنى أنه تعالى استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن،
والعرشُ الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملِك فإن الأمورَ والتدابير تنزِل منه وقيل: الملك.
تفسير قول الله تعالى (الرحمن على العرش استوى)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
تَفسِيرُ الآيةِ: {الرحمن على العرش استوى} [5 سورة طه] .
مقدمة،
يَجِبُ أن يكونَ تفسيرُ هذه الآية بغيرِ الاستِقرارِ والجلوسِ ونحوِ ذلكَ ويَكفُر من يعتَقِدُ ذَلِكَ.
فالذي يعتقدُ أن معنى قولِ الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى) (5) } جَلَسَ أو استقرَ أو حاذَى العرشَ يَكفُر.
لذا يَجِبُ تَركُ الحَملِ على الَظاهِر بَل يُحَملُ على مَحْملٍ مُستَقيمٍ في العُقُول، ِ فتُحمَلُ لفظَةُ الاستِواءِ على القَهرِ، ففي لُغَةِ العَرَبِ يُقالُ: استَوى فُلانٌ على المَمَالِكِ إذا احتَوَى على مَقَالِيدِ المُلكِ واستَعلى على الرقَابِ. ومعنى ((واستعلى على الرقَابِ)) اي استولى على الأشخاصِ اي على أهل البلد ِ.
كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: قَد اسْتَوَى بِشْرٌ علَى العِراقِ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ
(مهراق) تُلفظ القافُ المكسورة وكأَنَّ في ءاخرِها ياءً ولو لم تكن الياءُ مكتوبةً، والمعنى أنه سَيطَرَ على العراقِ ومَلَكَهَا من غير حَربٍ وإراقَةِ دِمَاءٍ.
فتفسير ءاية الاستواءَ:
1- إما أن تُأوّل تأويلاً إجماليًّا فيُقَالُ: اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ مَع تَنزِيْهِهِ عن اسْتِواءِ المخْلُوقِيْنَ كَالجُلوسِ والاسْتِقرارٍ، أو يقال: {الرحمن على العرش استوى} بلا كيف ٍ.
2- وإما أن تُأوّل تأويلاً تفصيليَا فيُقَالُ: (استوى) اي قَهَرَ، ويجوزُ أن يقولَ استولى.
فمَن شَاءَ قال: استوى استواءً يليقُ بهِ من غير أن يُفَسّرَهُ بالقهرِ أو نحوهِ فيكونُ أوَّل تأويلاً إجماليًّا، ومن شَاءَ قال: استوى أي قَهَرَ فيكونُ أوَّلَ تأويلاً تفصيليًّا.
ومعنى قًَهْر الله للعرشِ الذي هو أعظمُ المخلوقاتِ: أن العرشَ تحت تصرُّف الله هو خلقَهُ وهو يحفظهُ، يحفظُ عليهِ وجودهُ ولولا حفظُ الله تعالى له لهَوى إلى الأسفلِ فتحطَّمَ، فالله تعالى هو أوجدَهُ ثم هو حفظهُ وأبقاهُ، هذا معنى قَهَرَ العرشَ، هو سبحانَهُ قاهرُ العالم كلّه، هذه الشّمسُ والقمرُ والنّجومُ لولا أن الله يحفظُها على هذا النّظامِ الذي هي قائمةٌ عليه لكانت تهاوَت وحطَّم بعضُها بعضًا واختلَّ نظامُ العالمِ.
والإنسانُ قهرَهُ الله بالموتِ، أيُّ مَلِكٍ وأيُّ إنسانٍ رُزِقَ عمرًا طويلاً لا يملكُ لنفسِهِ أن يحميَ نفسَهُ من الموتِ فلا بدَّ أن يموتَ.
وليُعلَم أن الاستواءَ في لغةِ العربِ له خمسة عشرَ معنًى كما قالَ الحافظُ أبو بكر بن العربيّ ومن معانيهِ: الاستقرارُ والتَّمامُ والاعتدَال والاستعلاءُ والعلوُّ والاستيلاءُ وغير ذلك، ثم هذه المعاني بعضُها تليقُ بالله وبعصُها لا تليقُ بالله. فما كان من صفات الأجسام فلا يليق بالله.
يقولُ حسن البنّا رحمه الله تعالى في كتابِ العقائدِ الأسلاميَّةِ: (السَّلفُ والخلفُ ليس بينهم خلافٌ على أنه لا يجوزُ حملُ ءايةِ الاستواءِ على المعنى المتبادرِ) وهذا الكلام من جواهِرِ العلمِ.
فإن قالَ الوهَّابيُّ: {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] (على) أي فوق، يقالُ لهم: ماذا تقولونَ في قولِهِ تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة المجادلة 10] ؟ هل يفهمونَ من هذه الآية أن العبادَ فوق الله؟ فإن (على) تأتي لعلوّ القدرِ وللعلوّ الحِسّيّ، وقد قالَ الله تعالى مُخبرًا عن فرعون أنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [سورة النازعات24] أرادَ علوَّ القهرِ بقولِِهِ: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} .
وقد ذَكَرَ الإمامُ أبو منصورٍ الماتريديُّ في تأويلاتِهِ في قولِهِ تعالى {ثُمَّ استوى على العرش) [سورة الأعراف 54] يقولُ: (أي وقد استوى) ، ومعناهُ أنَّ الله كانَ مستويًا على العرشِ قبلَ وجودِ السمواتِ والأرضِ، وبعضُ الناس يتوهَّم من كلمة (ثم) أن الله استوى على العرشِ بعد أن لم يكن يظنُّونَ أن ثُمَّ دائمًا للتأخُّر، ويصحُّ في اللُّغة أن يقالَ أنا أعطيتُكَ يوم كذا كذا وكذا ثم إني أعطيتُكَ قبلَ ذلك كذا وكذا، فإن (ثم) ليست دائمًا للتَّأخُّرِ في الزَّمن، أحيانًا تأتي لذلكَ وأحيانًا تأتي لغيرِ ذلك، قال الشَّاعر:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ... ثُمّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
ويُروى عن أمّ سلمةَ إحدى زوجاتِ الرّسولِ ويروى عن سفيانَ بنِ عيينةَ ويروى عن مالكِ بن أنسٍ أنهم فسَّروا استواء الله على عرشِهِ بقولهم: الاستواءُ معلومٌ ولا يقالُ كيفٌ والكيفُ غيرُ معقولٍ.
ومعنى قولهم: (الاستواء معلومٌ) معناهُ معلومٌ ورودُهُ في القرءانِ أي بأنه مستوٍ على عرشِهِ استواءً يليقُ به. ومعنى: (والكيفُ غير معقولٍ) أي الشَّكلُ والهيئةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا غير معقولٍ أي لا يقبلُهُ العقلُ ولا تجوزُ على الله لأنها من صفات الأجسام.
وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه عن الاستواء فقال: (استوى كما أخبَرَ لا كما يَخطُرُ للبشرِ) .
وقد ثبَت عن الإمامِ مالكٍ بإسنادٍ قويّ جيدٍ أنه قال في استواء الله: (استوى كما وَصَفَ نفسَهُ ولا يقالُ كيف وكيف عنه مرفوعٌ) ، ولا يصحُّ عن مالكٍ ولا عن غيرِهِ من السلفِ أنه قال الاستواءُ معلومٌ والكيفيةُ مجهولةٌ، فهذه العبارةُ لم تَثبُت من حيثُ الإسنادُ عن أحدٍ من السلفِ، وهي موهِمَةٌ معنًى فاسدًا وهو أن استواءَ الله على العرشِ هو استواءٌ له هيئةٌ وشكلٌ لكن نحنُ لا نعلمُهُ وهذا خلافُ مرادِ السلفِ بقولهم: (والكيفُ غيرُ معقول) . وهذه الكلمةُ قالها بعض الأشاعرة مع تنزيهِهِم لله عن الجسميةِ والتحيزِ في المكان والجهةِ وهي كثيرةُ الدورانِ على ألسنةِ المشبهةِ والوهابيةِ لأنهم يعتقدونَ أن المرادَ بالاستواءِ الجلوسُ والاستقرارُ أي عند أغلبِهم وعندَ بعضِهم المحاذاةُ فوق العرش من غير مماسة، ولا يدرونَ أن هذا هو الكيفُ المنفيُّ عن الله عند السلفِ، ولا يُغْتَرُّ بوجودِ هذه العبارةِ في كتابِ إحياء علومِ الدينِ ونحوهِ ولا يريدُ مؤلفُهُ الغزاليُّ ما تفهمُهُ المشبهةُ لأنه مُصَرّحٌ في كتبِهِ بأن الله منزهٌ عن الجسميةِ والتحيزِ في المكانِ وعن الحَدّ والمقدارِ لأن الحدَّ والمقدارَ من صفاتِ المخلوقِ قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَار} [سورة الرعد 8] . فالتحيز في المكان والجهة من صفات الحجم والله ليس حجمًا.
وما يوجد في بعض كتب الأشاعرة من هذه العبارة [الاستواء معلوم والكيفية مجهولة] غلطة لا أساس لها عن السلف لا عن مالك ولا عن غيره وهي شنيعة لأنها يفهم منها المشبه الوهابيّ وغيره أن الاستواء كيفٌ لكن لا نعلمه مجهول عندنا. وأما من أوردها من الأشاعرة فلا يفهمون هذا المعنى بل يفهمون أن حقيقة الاستواء غير معلوم للخلق فالوهابية تقصد بها ما يناسب معتقدها من أن الله حجم له حيّز. والعجب منهم كيف يقولون إنّ الاستواء على العرش حسيّ ثم يصفونه بالكون مجهولا. ولعلهم يريدون بهذا هل هو قعود على شكل تربيع أم على شكل ءاخر.
فإن قيلَ: لماذا قالَ الله تعالى بأنه استوى على العرشِ على حَسَبِ تفسيرِكم بمعنى قَهَر وهو قَاهرُ كلّ شئٍ؟ نقول لهم: أليسَ قال: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة 129] مع أنه ربُُّ كلّ شئٍ؟!
وفَائِدَةِ تَخْصِيص العَرْشِ بالذّكْرِ أنَّهُ أعْظَمُ مَخلُوقَاتِ الله تَعَالى حجمًا فيُعْلَمُ شُمُولُ ما دُوْنَه مِنْ بَابِ الأَوْلَى. قَالَ الإمَامُ عَلِيٌّ: (إنَّ الله تَعَالى خَلَقَ العَرْشَ إِظْهَارًا لقُدْرَتِهِ، ولمْ يَتّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ) . رواهُ الإمامُ المحدثُ الفقيهُ اللغويُّ أبو منصورٍ التميميُّ في كتابهِ التبصرة.
فإذا قلنا: "الله تعالى قهر العرش" معناهُ قَهَرَ كلَّ شئٍ وإنما خصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات حجمًا وهو محدود لا يعلم حده إلا الله.
وبئسَ معتقدُ ابن تيمية فإنه قال: "الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو" اهـ فيقال لمن يقول قوله هذا قد قلت الله محدود لكن لا يعلم حده إلا هو فقد شبهته بالعرش؛ فإنّ العرش محدود ولا يعلم حده إلا الله، فماذا يفيد قولكم في الله إن له حدًا لكن لا يعلم حده إلا هو؟
فإن قيلَ: كيفَ تقولونَ خَلقَهُ إظهارًا لقدرتِهِ ونحنُ لا نَراهُ؟
نقولُ: الملائكةُ الحافُّون حولَهُ يرونَهُ والملائكةُ لما ينظرونَ إلى عِظَمِ العرشِ يزدادونَ خوفًا ويزدادونَ عِلمًا بكمالِ قدرةِ الله، لهذا خَلَقَ الله العرشَ. وقولُ سيدنا علي الذي مرّ ذكره رواهُ الإمام أبو منصورٍ البغداديُّ في كتابه التبصرة.
وليعلم أَنَّه يَجِبُ الحَذَرُ مِنْ هؤلاءِ الذينَ يُجِيزُوْنَ علَى الله القُعُودَ علَى العَرْشِ والاسْتِقْرارِ عليه مُفَسّرينَ لِقَوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] بالجُلُوسِ أو المحاذاةِ من فوق.
وهؤلاءِ هم الوهّابيّةُ في عصرنا هذا وقَبلهم أناسٌ كانوا يعتقدونَ ذلكَ كالكرامية اسلاف هؤلاء الوهّابيّةُ ففسَّروا الآيةَ بالجلوسِ فقالوا: الله تعالى قاعدٌ على العرشِ، هؤلاءِ يجبُ الحَذَرُ منهم.
هؤلاء يحتجون بقولهم أَنَّه لا يُعقَلُ مَوْجُودٌ إلا في مَكَانٍ، يقولون: كيفَ يكونُ موجودٌ بلا مكانٍ، والموجودُ لا بدَّ له من مكانٍ، الله موجود إذًا له مكانٌ، وحجَّتُهم هذِهِ داحضةٌ باطلةٌ؛ لأنهُ ليسَ من شرطِ الوجودِ التحيزُ في المكانِ أليسَ الله كان موجودًا قبل المكانِ والزمانِ وكلّ ما سواهُ بشهادةِ حديثِ: (كان الله ولم يكن شئٌ غيرُهُ) فالمكانُ غيرُ الله والجهاتُ الحجمُ غيرُ الله فإذًا صحَّ وجودُهُ تعالى شرعًا وعقلاً قبلَ المكانِ والجهاتِ بلا مكانٍ ولا جهةٍ، فكيفَ يستحيلُ على زعم هؤلاءِ وجودُهُ تعالى بلا مكانٍ بعد خلقِ المكانِ والجهاتِ؟!! . ومصيبةُ هؤلاءِ أنهم قاسوا الخالقَ على المخلوقِ؛ قالوا: كما لا يُعقَلُ وجودُ إنسانٍ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلكَ من الأجسامِ بلا مكانٍ يستحيلُ وجودُ الله بلا مكانٍ فَهَلَكوا.
وزعموا أيضًا أنَّ قَوْلَ السَّلَفِ استوى بلا كَيْفٍ مُوافِقٌ لذَلِكَ وَلم يَدْرُوا أنَّ الكَيْفَ الذي نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الجُلُوسُ والاسْتِقْرارُ والتّحَيُّزُ إلى المَكَانِ والمُحَاذاةُ وكلُّ الهيئاتِ من حركةٍ وسكونٍ وانفعَالٍ.
فالمحاذاةُ والجلوسُ والاستقرارُ هذا الكيفُ الذي نفاهُ السَّلفُ الذين قالوا في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] استوى بلا كيفٍ، ومرادُهُم بقولهم بلا كيفٍ ليسَ استواءَ الجلوسِ والاستقرارِ والمحاذاةِ. المحاذاةُ معناهُ كونُ الشّئِ في مقابلِ شئٍ، فنحنُ حينَ نكونُ تحتَ سطحٍ فنحنُ في محاذاتِهِ، وحينَ نكونُ في الفضاءِ نكونُ في محاذاةِ السماءِ، والسماءُ الأولى تحاذي السماءَ التي فوقَها، والكرسيُّ يحاذي العرشَ، والعرش يحاذي الكرسيّ من تحت، والله تَعَالَى لا يجوزُ عليهِ أن يكونَ مضطجِعًا عليهِ ولا أن يكونَ في محاذاتِهِ، إذ المحاذي إما أن يكونَ مساويًا للمحاذَى وإما أن يكونَ أكبر منهُ وإما أن يكونً أصغر منهُ، وكلُّ هذا لا يصحُّ إلا للشّئ الذي له جِرمٌ ومساحةٌ والذي له جِرمٌ ومساحةٌ محتاجٌ إلى من رَكَّبَهُ، والله منزَّهٌ عن ذلك، سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا.