أبجدية التصوف للعارف بالله تعالى الشيخ محمد زكى إبراهيم


  بسم الله الرحمن الرحيم
 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم  

أبجدية التصوف للعارف بالله تعالى الشيخ محمد زكى إبراهيم  - رائد العشيرة المحمدية 
السؤال الأول :
1. ما هو المقصود بالتصوف الإسلامى؟ 
1. وهل مورس هذا التصوف فى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
2. ولماذا يختلفون فى تعريف التصوف؟
3. ولماذا يختلفون فى تحديد مصادره؟ 
* * *
الجواب:
1. المقصود بالتصوف الإسلامى، يعرف من تعريفاتة كثيرة:
التى تتلخص كلها فى أن:
" التصوف هو: التخلى عن كل دَنِى، والتحلى بكلى سَنى "
سلوكاً إلى مراتب القرب والوصول، فهو إعادة بناء الإنسان، وربطه بمولاه فى كل فكر، وقول، وعمل، ونية، وفى كل موقع من مواقع الإنسانية فى الحياة العامة ".
ويمكن تلخيص هذا التعريف فى كلمة واحدة، هى: (التقوى) فى أرقى مستويات الحسية، والمعنوية.
فالتقوى عقيدة، وخٌلق، فهى معاملة الله بحسن العبادة، ومعاملة العبادة بحسن الخلق، وهذا الاعتبار هو ما نزل به الوحى على كل نبى، وعليه تدور حقوق الإنسانية الرفيعة فى الإسلام.
وروح التقوى هو (التزكى) و {قد افلح من تزكى} " سورة الأعلى، الآية: 14.
و {قد أفلح من زكاها} " سورة الشمس، الآية: 9 ".
2. وبهذا المعنى تستطيع أن تستيقن بأن التصوف قد مُورس فعلاً فى العهد النبوى، والصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.
وقد امتاز التصوف مثلاً بالدعوة، والجهاد، والخلق، والذكر، والفكر، والزهد فى الفضول، وكلها من مكونات التقوى (أو التزكى) وبهذا يكون التصوف مما جاء به الوحى، ومما نزل به القرآن، ومما حثت عليه السنة، فهو مقام (الإحسان) فيها، كما أنه مقام التقوى فى القرآن والإحسان فى الحديث: مقامُ الربانية الإسلامية، يقول تعالى: {كونوا ربانيين بكا كنتم تعلمون الكتاب بما كنتم تدرسون} " سورة آل عمران، الآية: 79.
هذا هو التصوف الذى نعرفه، فإذا كان هناك تصوف يخاف ذلك، فلا شأن لنا به، ووزره على أهله، ونحن لا نُسأل عنهم فـ " كل امرئ بما كسب رهين " والمتصوف شئ، والوفى شئ آخر.

3. أما الاختلاف فى تعريف التصوف، فهو راجع إلى منازل الرجال فى معارج السلوك، فكل واحد منهم ترجم أساسه فى مقامه، وهو لا يتعارض أبداً مقام سواه؛ فإن الحقيقة واحدة، وهى كالبستان الجامع، كلٌ سالك وقف تحت شجرة منها فوصفها، ولم يقل إنه ليس بالبستان شجرٌ سواها ومهما اختلفت التعريفات، فإنها تلتقى عند رتبة من التزكى والتقوى: أى الربانية الإسلامية، أى (التصوف) على طريق الهجرة إلى الله {ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين} " سورة الذرايات، الآية 50 - وقال: {إنى مهاجر إلى ربى} " سورة العنكبوت، الآية: 26 ".
فالواقع أنها جميعاً تعريف واحد، يُكمل بعضه بعضاً.
4. أما الاختلاف فى تحديد مصادر التصوف، فدسيسة من دسائس أعداء الله؛ فالتصوف كما قدمنا " ربانية الإسلام "، فهو عبادة، وخلق، ودعوة، واحتياط، وأخذ بالعزائم، واعتصام بالقيم الرفيعة، فمن ذا الذى يقول: إنه هذه المعانى ليست من صميم الإسلام؟
إنها مغالطات، أو أغالط نظروا فيها إلى هذا الركام للدخول على التصوف من المذاهب الشاذة، أو الضالة، ولم ينظروا إلى حقيقة التصوف.
والحكم على الشىء بالدخول عليه / غلطٌ أو مغالطة.
والحكم على المجموع بتصرف أفراد انتسبوا إليه صدقاً أو كذباً: ظلم مبين..
وهل من المعقول أن يترك المسلمون إسلامهم مثلاً لشذوذ طائفة منهم تشرب الخمر، أو تمارس الزنا، أو تحلل ما حرم الله؟
وهل عملُ هؤلاء يكون دليلاً على ان الإسلام ليس من عند الله؟! .... شيئاً من التدبر أيها الناس!!! .
* * *
السؤال الثانى
1. من هو الصوفى؟
2. وبماذا يمتاز عن عامة المسلمين؟
3. وهل هناك فرق بينه وبين التقى، أو المؤمن، أو المسلم، أو الصديق؟
4. وإذا لم يكن هناك فرق، فلماذا الإصرار على استخدام الاصطلاح؟
الجواب:

1. تستطيع أن تعرف الصوفى الحق، بأنه المسلم النموذجى، فقد اجمع كافة أئمة التصوف على أن التصوف هو الكتاب والسنة، فى نقاء وسماحة واحتياط، وشرطه أئمة التصوف فى مريديها أخذاً من قوله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} " سورى آل عمران، الآية 79 "
والعلم هنا أولاً: علم الدين بدعامتيه " الكتاب والسنة "، ثم هما بدورهما منبع كل علم إنسانى نافع، على مستوى كافة الحضارات، وتقدم البشرية، مقتضى تطور الحياة.
فالتصوف إذن هو: ربانية الإسلام الجامعة للدين والدنيا (قال الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد السهرودى رحمه الله تعالى: " إن الصوفى من يضع الأشياء فى مواضعها ويدبر الأوقات، والأحوال كلها بالعلم، يقيم الخلق مقامهم، ويقيم أمر الخلق مقامه، ويَستر ما ينبغى أن يُستر، ويُظهر ما ينبغى أن يظهر، ويأتى بالأمور من مواضعها بحضور عقل، وصحة توحيد، وكمال معرفة، ورعاية صدق وإخلاص " {راجع الخطط التوفيقية لـ " على باشا مبارك رحمه الله تعالى جـ1 ص90 طبع المطبعة الأميرية سنة 1305 هـ} .
ومن هنا جاء قول أئمة التصوف، وفى مقدمتهم (الجنيد) : " من لم يَحصل علوم القرآن والحديث، فليس بصوفى "،وأجمع على ذلك كل ائمة التصوف، من قبل ومن بعد، وتستطيع مراجعة نصوص أقوالهم عند القشرى، والشعرانى، ومن بينهما، ومن بعدهما.
2. أما الامتياز عن عامة المسلمين؛ فالقاعدة الإسلامية هنا هى المل؛ فإذا عمل الصوفى بمقتضى ما تتمين عليه كقدوة وداعية، امتاز بمقدار جهده، شأن كل متخصص وإلا فهو دون كل الناس إذا انحرف أو شذ، بل إن تجاوز.
فالصوفية يجعلون خلاف الأولى فى مرتبة الحرام اتقاءً للشبهات، واستبراءٌ للعرض والدين "ومن نصوص الحديث - كما فى الفتح الكبير قوله - صلى الله عليه وسلم -:

{الحلال بٍٍٍِِين والحرام بين، وبينهما أمور متشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل مَلك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى فى أرضه محارمه، الا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب] . " رواه الأربعة، والبخارى ومسلم ".
وهم يعرفون كيف أن السلف كانوا يتركون تسعة أعشار الحلال: خوف الوقوع فى الحرام، فهم يؤمنون بهذا، ويحاولون العمل به.
والله تعالى يقول: {ولكل درجات مما عملوا} " هو من كلام سيدنا عمر "، فهم يؤمنون بهذا ويحاولون العمل به.
3. أما مسألة الفرق بين الصوفى، والمسلم، والمؤمن، والتقى:
فأن الإسلام شرع لنا تعريف الناس بخصائصهم، وذكرهم بما يميزهم عن غيرهم، وقد ذكر الله المهاجرين والأنصار بخصيصتهم: تعريفاً، وهم مسلمون مؤمنون أتقياء، وذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً الحبشى، وصهيباً الرومى، وسلمان الفارسى بما يميزهم من الألقاب، وهم مسلمون مؤمنون أتقياء.
وذكر القرآن من المسلمين أصنافاً: الخاشعين، والقانتين، والتائبين، والمتصدقين، والعادين، والخامدين، والسائحين وغيرهم، وكلهم من أهل {لا إله إلا الله} .
إذن، فذكر إنسان بخصيصة عُرف بها عند الناس، سنة قرآنية ونبوية، وما دامت هذه الطائفة، قد عرفت باسم الصوفية لسبب أو لآخر، فليس بدعاً أن تُدعى بهذا الاسم.
ثم لماذا كل هذه الزوبعة هنا، ولا تكون هناك زوبعة حين يقال (سلفية) ؟! ـو (أزهرية) ، أو (وهابية) ، أو (شافعية) ، أو (مالكية) ، أو (حنبلية) ؟! وهل كان فيما مضى (جمعية كذا - أو جماعة كذا) ؟
أرايت أن الأمر كان أهون من أن يكون سؤالاً، لولا المذهبية المدمرة، والتعصب الموبق 1؟
* * *

السؤال الثالث
ما رأيكم فيما يوجه للتصوف من اتهام بأنه يعود فى أصوله الأولى للبوذية؟ والمجوسية؟ والرهبانية... ألخ؟
الجواب:
قدمت أن التصوف الإسلامى، هو الربانية، فهو: إيمان وعمل، وعبادة، ودعوة، وأخلاق، وبر مطلق. وهو إرادة وجه الله فى كل قول وعمل، أو نية، أو فكر، دنيوى أو أخروى، وهو التساوى بالبشرية إلى مستوى الإنسانية الرفيعة، فهو وحى من الوحى، وهو الدين كل الدين؛ لأنه بهذا الوصف (طلب الكمال) ، وطلبُ الكمال فرض عين، وهو علاج لأمراض النفوس، وما من إنسان إلا وهو مبتلى بجانب - قل أو كثر - من النقص الذى نسميه: مرض النفس، أو الخلقُ، وإنما جاءت رسالات السماء كلها لعلاج هذه الأمراض النفسية والخلقية أول ما تعالج فى بنى أدم.
ولما كان التصوف قد تخصص فى هذا الجانب، كان طلبهُ فرضاً شرعياً، وعقلياً، وإنسانياً واجتماعياً - حتى يوجد الإنسان السوى الذى به تتسامى الحياة، وتتحقق خلافة الله على أرضه، وينتشر الحب والسماحة بين الناس، وتأخذ الحضارة والتقدمية روحهما الإيمانى المحقُق لمراد الله.
وأدلة ذلك جميعاً مما لا يغيب عن صغار طلبة العلم، ومما تزخر به علوم الكتاب والسنة.
ولا أعرف أن الكتاب والسنة نقلاً عن المجوسية، والبوذية والرهبانية شيئاً أبداً، وأنما هو الغل المورث للتهم الكواذب، وتضليل خلق الله.
أما إذا كان المراد بالتصوف فى السؤال، هو هذه الفلسفات الأجنبية عن العقيدة والشريعة، فهذا باب آخر، لا علاقة له بتصوف أهل القبلة، والاحتجاج بهؤلاء علينا فيه تلبيس الحق بالباطل، ثم إن أخذ البرىء بذنب المجرم: فعلة دنيئة.

على أن الذين اشتهروا بهذا الجانب الفلسفى، ممن ينسبون إلى التصوف، عدد محدود، قد لا يجاوز العشرة، وسواء قبلت فلسفتهم التأويل والتوجيه - ولو من وجه ضعيف - أو لم تقبل، فهؤلاء، وقد أصبحت كتبهم بما فيها من الأفكار أشبه بنواويس الموتى: تُعرض - إذا عُرضت - للزينة، او التاريخ والعبرة، فليس بين صوفية عصرنا من يرى رأيهم، او يذهب مذهبهم، سواء على ظاهره، أو على تأويله.
وأين فكرٌ الجماهير من العمال والفلاحين، وأنصاف المتعلمين، أو حتى كبار المثقفين، من كتب هؤلاء وألغازهم وأحاجيهم؟!
هذا وإذا أمكن الحصول على الكتب وعلى والوقت، وليس المر كذلك، ولا شك أن الوقوف عند هذا الجانب فى هذا العصر: نوع من البحث الأثرى، عن الحفريات المجهولة، فى سراديب الرموس والأجداث: عصبية وحمية.
والغاضبون على التصوف جميعاً يحتجون بهؤلاء، وقد انتهى أمر هؤلاء، فقد كانت مذاهبهم شخصية، لا تجد طريقها إلى الجماهير، لحاجتها إلى استعدادات وقابليات ومدارك، ومنطق لا يوافق لدى الكافة ومؤاخذة الخلف بفعل السلف- لو سلمنا جدلاً بأنهم سلف - أمر بعيد عن العلم والعدل.
والحكم على الكل بذنب البعض - لو سلمنا بهذه البعضية - أمر بعيد عن العلم والعدل.
ولو أننا إخواننا (خصوم التصوف) . نظروا إلى الواقع الفعلى. فكافحوا معنا منكرات العصر ومبتدعاته، من نحو: الطبل، والزمر، والرقص، وتحريف أسماء الله، وغير ذلك من مناكر المواد، والتجمعات العامة، وأخذوا طريق التعاون بالحسنى، والدعوة بالحكمة، لكان هذا أدنى إلى الصواب وأهدى سبيلاً، عند الله والناس.
أما حملتهم على هؤلاء الموتى، ممن جنحوا إلى الفلسفة، فاستئساد على الرمم، وصيال فى غير مجال، ومبارزة مع الهواء الطلق؛ فهؤلاء الموتى، ما يملكون الدفع عن أنفسهم، وليس من ورائهم وراث يدافع عنهم، إلا - إذا وجد - لمجرد التصويب وإحسان الظن بأهل القبلة، أو لمجرد الثقافة والتاريخ.

وهنا أقر بملء الثقة واليقين، أنًّ كل ما جاء منسوباً إلى التصوف مما يخالف الكتاب والسنة، مهما كان مصدره، فليس - فيما نرى - من ثمرة الإسلام بوصفه مقام (الإحسان) الذى سجله الحديث النبوى المشهور، كما قدمنا، وهو فى تساميه أبعد من لهو الفلسفة وعبثها، وإن تأولت.
* * *
السؤال الرابع
ثابت أن المسلمين لم يعرفوا التصوف، إلا بعد ثلاثة قرون من انتشار الإسلام.
1. فهل يحتاج الإسلام إلى التصوف؟
2. هل التصوف يضيف جديداً إلى الإسلام؟
3. وما هو الفرق بين الزهد الإسلامى والتصوف؟
الجواب:
من الذى قال بأن المسلمين لم يعرفوا التصوف إلا بعد القرون الثلاثة الأولى؟
هذه مجازفة: ليست بعلمية، ولا تاريخية، وليس لها سند، فإذا كان المراد بأنهم لم يعرفوا لفظ التصوف إلا بعد القرون الثلاثة، فليس هذا بصحيح أيضاً (هذا الذى قالوه: إنما من كلام ابن تميمة رحمه الله تعالى، قال فى كتابه " الصوفية والفقراء ":
" الحمد لله: أما لفظ الصوفية، فإنه لم يكن مشهوراً فى القرون الثلاثة الأولى وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك.
وقد نقل التكلم به من غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل، وأبى سليمان الدرانى، وغيرهما.
وقد روى عن سيفان الثورى أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصرى.
وتنازعوا فى المعنى الذى أضيف إليه الصوفى؛ فإنه من أسماء النسب كالقراشى، والمدنى، وأمثال ذلك، فقيل: إنه نسبة إلى أهل الصفة، وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صُفّى.
وقيل: إنه نسبة إلى الصف المقدم بين يدى الله، وهو أيضاً غلط، فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفُىٌ.
وقيل: نسبة إلى صوفة بن أُد بن طابخة قبيلة من العرب كان يجاورون بمكة من الزمن القديم، ينسب إليهم النساك " إلى آخر ما قال) .

فقد اثبت مؤرخو اللغة وغيرهم أن هذا اللفظ كان عندما اشتهروا بالخشونة والرجولة، ولبس الصوف، والاستعداد للجهاد، فإن تصوف المسلمين: دعوة إلى القوة، والحرية، والمساواة، والتكافل، والإخاء، والتوحيد، ومعالى الأمور، لبناء شخصية المسلم المتكامل، وكان عهد التدوين قد بدأ بمن كتب الحديث فى عهد رسول - صلى الله عليه وسلم -، وظل ينمو حتى ازدهر فى أواخر القرن الأول، وأوائل الثانى، بتحرير الحديث والفقه، والتفسير، واللغة، وما إلى ذلك.
(وقال ايضاً بعد كلام:
"... والصواب أنهم مجتهدون فى طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله؛ ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذى هو من أهل اليمين... " إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى، فراجعه هناك.")
أما إذا كان المراد بأن مادة التصوف وحقيقته وأصوله وموضوعه لم تُعرف إلا بعد هذه المدة، فالخطأ هنا يستحيل إلى خطيئة، فمادة التصوف من حيث العبادة، والخلق - على أوسع معانى العبادة والخلق - موجود مشهودة فى الكتاب والسنة، شأن بقية مواد علوم الدين، فإذا لم يكن لفظ (التصوف) موجوداً فى هذا العقد، فقد كانت العبادات والأخلاق، وتربية النفس، ووسائل العفة بالله، والارتفاع بإنسانية الإنسان، كل هذه مسجلة فى دين الله، وهى التصوف (سماه الناس كذلك) كل هذه مسجلة فى دين الله، وهى التصوف (سماه الناس كذلك) فالاسم حادث، والمادة قديمة بقدم الكتاب والسنة، شأن بقية علوم الدين سواء بسواء.
ولم يكن هذا بدعاً، فلم يكن فى هذا العهد علم باسم (الفقه) ولا باسم (الأصول) ولا باسم (مصطلح الحديث) ، ولا غير ذلك من علوم الدين، ولكن المادة كانت موجودة بين دفتى الكتاب والسنة. فلا دٌونت العلوم، ورٌسمت القواعد والمصطلحات، أطلقت الأسماء حسبما رجحته الظروف الواقعية آنذاك.
وإذن، فلماذا ننكر تسمية التصوف، ولا ننكر تسمية بقية علوم الدين، والشأن واحد!؟

ثم لماذا ننكر تسمية (التصوف) ولا ننكر تسمية (التسلف) ؟!
مزيد بيان التصوف:
فى " لسان العرب " لابن منظور يقول: " الصوف: للضأن، والصوفه أخص... ثم قال: والصوفة: كل من ولى شيئاً من عمل البيت الحرام وهو الصوفان.... وصوفة... أبو حى من مضر، كانوا يخدمون الكعبة فى الجاهلية ن وهى أعظم ما يولى يومئذ "... ثم قال:
" وصوفة حى من تميم كانوا يجيزون الحاج فى الجاهلية من منى فيكونون أول من يدفع يقال فى الحج: أجيزى صوفة... ".
وفى هذا المعنى يقول ابن الجوزى: أنبأنا محمد بن ناصر، عن أبى اسحق إبراهيم بن سعد الحبال، قال: قال أبو محمد بن سعيد الحافظ، سألت وليد بن القاسم: إلى أى شئ ينسب الصوفى؟ فقال: كان قوم على دين إبراهيم فى الجاهلية يقال لهم: صوفة، انقطعوا إلى الله عز وجل، وقطنوا الكعبة، فمن شبه بهم فهم الصوفية.
ثم قال: فهؤلاء المعرفون بصوفة، ولد الغورث بن مر، بن أخى تميم.
وفى المعجم الوسيط: " صَوف فلاناً: "جعله من الصوفية، و"تصوف فلاناً " صار من لصوفية. " والتصوف " طريقة سلوكية قوامها التقشف والتحلى بالفضائل، لتزكو النفس وتسمو الروح. " وعلم التصوف " مجموعة المبادئ إلى يعتقدها المتصوفة، والآداب التى يتأدبون بها فى مجتمعاتهم وخلواتهم. و " الصوفى " من يتبع طريقة التصوف ".
وهكذا يتأكد: أن كلمة التوصف عربية قديمة، فى لغة العرب، فمن ارجعها إلى (سوفيا) اليونانية، فقد جهل وانحرف وقلد العميان، ومن أدعى إنها بدعة محدثة، كان أشد جهلاً وانحرافاً؛ فالتصوف أخلاق، وعبادة، ودعوة، وجهاد ن وسلوك، فهو وحى من الوحى ودين من الدين.

إن كلمة صوفى بعيدة كل البعد - من حيث المعنى - عن التأثر باليونان، فقد عرفت واستعملت قبل نهاية القرن الثانى الهجرى، حيث أطلقت على أبو هاشم الكوفى (المتوفى سنة 150هـ) ، وإن هذا النوع من التصوف وليد لحركة الإسلام ذاته، وإن العرب استمدوا أول علمهم بفلسفة أرسطوطاليس " الذى نقل إلى العربية، من شرح الأفلاطونية الحديثة، وليس كتاب " أثولوجيا أرسطوطاليس " الذى نقل إلى العربية حوالى 840 م إلا ملخصاً لمذهب الأفلاطونية الحديثة. ويؤيد هذا الاتجاه المحقق من واقع التاريخ " عباس محمود العقاد " فى كتابة " الفلسفة القرآنية " حيث يقول: " لكن التصوف فى الحقيقية غير دخيل فى العقيدة الإسلامية؛ لأنه - كا فلنا فى كتابنا - " أثر العرب فى الحضارة الأوربية ": مبثوث فى آيات القرآن الكريم، مستكن بأصوله فى عقائده الصريحة. فالمسلم يقراً فى كتابه أن {ليس كمثله شئ وهو السميع البصير} " سورة الشورى، الآية: 11 " فيقراً خلاصة العلم الذى يعلمه دارس الحكمة الإلهية، ويقر فى كتابه {ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين} " سورة الذاريات: الأية 50 " فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون بأن ملابسة العالم تكاد تكون سعادة الروح، وأن الفرار منه، أو الفرار إلى الله: هو باب الجنة... فالمسلم: الذى يقرأ الآيات - هو مطبوع على التصوف والبحث عن خفايا الآثار ودقائق الحكمة.
2. أما: هل الإسلام يحتاج إلى التصوف؟ فإذا كان الشىء يحتاج إلى نفسه، جاز أن يقال: إن الإسلام يحتاج إلى التصوف.
الإسلام انقياد ظاهرى، لا يتم إلا بالانقياد الباطنى، وإلا كان نفاقاً.
والانقياد الباطنى هو: الإيمان بوصفه عملاً من أعمال القلب، التى نسميها " التصوف "، فليس التصوف شيئاً غير الإسلام، حتى يقال:

إنه يحتاج إليه، او يستغنى عنه، إنما التصوف هو ذروة الدين كله، مقام " الإحسان ": التقوى، والتزكية، والربانية، كما قدمنا، فهو الغاية والثمرة التى لا تتاح إلا لسالك مريد موفقًّ ذَواق.
وهكذا نجد: أن السؤال الذى يقول: هل التصوف يضيف جديداً إلى الإسلام سؤال غير وارد، والإجابة عليه واضحة فى الرد على الشطر السابق.
أين هذا السؤال من قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى، ورضيت لكم الإسلام ديناً} " سورة المائدة، الآية: 2 "
أن التصوف الحق هو: الإسلام فى اعلى مستوياته.
ومن اعجب العجب من بعضهم أن يكتب أنه يقبل أوصاف الشكر والصب والورع والزهد والذكر والفكر، من كتب المتمسلفة، ولا يقبلها من كتب المتصوفة، تعصباً وغلاً للذين آمنوا
أما الفرق بينه وبين الزهد الإسلامى: فإن الصوفى أكبر من زاهد فى الدنيا؛ لأن الزاهد إنما يزهد فى الدنيا، وهى لا شئ، فالزهد فى الدنيا زهد فى لا شئ، والزاهد فى (لا شئ) غافل أو جاهل، لكن زهد الصوفى منصب على كل ما يبعده عن الله، على أى وضع يكون، أما كل ما يكره بالله (ولو على المال) فليس هو بزاهد فيه.
دخل صوغى على أحد الخلفاء، فحدثه، فأجازه الخليفة بما لم يكافئ بمثله أحداً قبله: فاعتذر الصوفى عن قبول عطية الخليفة، فاندهش الخليفة قائلاً له: ما أزهدك!! قال الصوفى: بل أنت أزهد منى يا أمير المؤمنين.
قال: كيف؟
قال: لأننى أزهد فى الدنيا، وهى لاشىء، وأنت تزهد فى الآخر، وهى كل شئ. "وهو نوع من التبكيت الواضح "
الزهد عند الصوفية: أن تكون الدنيا فى يده، لا فى قلبه، لأن الزاهد (غير الصوفى) تاجر، يحرم نفسه من متع الدنيا، ليعوضها أضعافاً فى الآخرة، ولا كذلك الصوفى الذى لا يحرم نفسه متعة أحلها الله، إلا إذا حجبته عن الله.

وهذا أبو الحسن الشاذلى - رضي الله عنه -، كان صاحب تجارات ومزارع، وهذا شمس الدين الدمياطى، كان تاجراً من أثرى علماء الصوفية، وهو الذى بنى برج دمياط من ماله الخاص فى عهد السلطان الغورى، وهذا الليث بن سعد، فقيه مصر، وأمام زهادها، كان أثرى أهل عصره. ولم تمنع هؤلاء أموالهم أن يكونوا أزهد الناس فى الدنيا إذا شغلتهم عن الله عز وجل. ولكنهم لم تشغلهم بعد، بل كانت طريقهم إليه عز وجل!!
وهكذا يتضح أن سحق الشخصية بالزهد المادى، والتبتل البشرى مما لا تعرفه قوانين التصوف الإسلامى.
وقد كان من أعيان الزاهدين من الصحابة: بلال، وسلمان، وأبو ذر ن وتميم الدارى، أول من جلس فى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام عمر يذكر الناس بالله فى يوم الجمعة.
فإنما الزهد فى حده المحدود، مما جاء عن كثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم كما أسلفنا.
وفى صدر هؤلاء جميعاً زهد (العمرين) ابن الخطاب، وابن عبد العزيز بعد سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد كانت الدنيا فى أيديهم، ولم تكن فى قلوبهم، فاستغنوا برب الدنيا عن الدنيا وما فيها ومن فيها.
إن الذى يملك هو الذى يملك، وهو الذى يزهد، أما الذى لا يملك، ففى أى شئ يزهد؟!
* * *
السؤال الخامس
بم تعلل فضيلتكم كون شيوخ التصوف من الفرس، وأحفاد المجوس، فى العصر الإسلامى؟ وكيف تعلل ازدهار التصوف فى القرن السابع، وما بعده بين العرب والمنتسبين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
الجواب:

ليتك يا ولدى لم توجه إلى هذا السؤال العنصرى الذى لا يرضاه الله ولا رسوله، أو لم تقرأ قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} " سورة الحجرات، الآية: 13. وقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا فضل لأبيض على احمر، ولعربى على عجمى إلا بالتقوى " " وفى رواية ذكرها ابن كثير فى تفسيره لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم: {يا أيها الناس، وأن الله تعالى قد أذهب عنكم غبية بالجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل يرتقى كريم على الله، ورجل فاجر شقى هين على الله} إلى آخر الحديث الذى رواه أبن أبى حاتم} ". وقوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله أذهب عبية الجاهلية وفخرها بالآباء؛ مؤمن تقى، وفاجر شقى، أنتم لآدم وآدم من تراب. وقوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تمعر وجهه غضباً: " ليدعن أقوام بأقوام إنما هم حطب من حطب جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التى تدفع بأنفها النتن " ومن نصوصه: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذى يدهده الخراء بانفه. إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية فخرها بالآباء؛ إنما هو مؤمن تقى، وفاجر شقى، الناس كلهم نو آدم، وآدم من تراب " رواه الترمذى.
ألم يأتك أن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألحق به سيدنا سلمان الفارسى، فقال: " سلمان منا أهل البيت " - ألم يرسل الله رسوله للناس كافة بشيراً ونذيراً؟!
إنها حمية الجاهلية، يرددها ببغاوات البشر، بلا تدبر، ولا بينة، وهل جاء الإسلام للعرب وحدهم، فاغتصبه منهم غيرهم، فأصبحوا منبوذين؟!
لم هذه الشعوبية، والعنصرية الكريهة، التى ينكرها الإسلام، وتنكرها الإنسانية الشريفة؟!

أليس الإمام البخارى، والترمذى، والنسائى، وابن ماجه، والطبرانى، والبيقهى، والاكثرية الغالبة من رجال الحديث، كلهم من غير العرب، وكذلك طائفة من أكبر المفسرين، كالزمخشرى، والنيسابورى،، وطائفة من أكبر علماء البلاغة، كالجرجانى، والتفتازانى!؟ ... من هو طارق بن زياد، وموسى بن نصير، هذان الموليان القائدان الفاتحان، اللذان أسسا للإسلام مجداً تاريخياً، لا يمحوه الزمان؟
من هو ابو حنيفة النعمان؟ اليس كان من الموالى، ولولاه ما كان لبنى تيم الله ذكر ولا فخر " أبو حنيفة من الأفغان، قالوا من كابل "
يا ولدى: إمام مصر الليث بن سعد، أصله من (أصبهان) ، أمام أهل السنة، احمد بن حنبل، أصله من (مرو) والإمام المفسر الطبرى، أصله من (طبرستان) ، والشعبى علامة التابعين وغمامهم، كانت أمه من (جلولاء) ، والحسن البصرى، الكوكب الفرد،، كان أبوه من (ميسان) .
وهذه علاّمة اللغة سيبويه، فارسى الأصل، والأمام الكسائى، فخر اللغة العربية، أصله من فارس، وتلميذه الإمام الفراء من الديلم، ثم أن إبن مسكويه وابن سينا، والفارابى، كانوا فرساً أعجمين.
اسمع يا ولدى: فقيه مكة، عطاء بن رباح، وفقيه الشام: مكحول، وفقيه الجزيرة: ميمون بن مهران، وفقيه خراسان: الضحاك بن مزاحم، وفقيها البصرة والكوفة: إبراهيم النخعى وابن سيرين، كل أولئك ليسوا من العرب أصلاً، ولكنهم برزوا فى جوانب العلم والفكر والمعرفة والدين؛ كانوا الأئمة بكل ما فى اللفظ من معنى يتجدد ولا يفنى.
إنما يتفاضل الناس بالأحلام " العقول "، لا بالأرحام، والناس عند الله سواسية كأسنان المشط، والله يقول: {ولا تنسوا الفضل بينكم} " سورة البقرة: الأية: 237 " ولقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد (مولاه) على جيش كان فيه أبو بكر وعمر. وعندما أراد عمر أن يستخلف قال: " لو كان سالمُ مولى حذيفة حياً لوليته!! ".
تأمل هذا الموقف الخطير.

اولدى ها هام أهل العلم: لا يكادون يذكرون ابن عمر ذكروا معه مولاه نافعاً، ولا يكاد يذكر أنس بن مالك، إلا ومعه مولاه ابن سيرين. ولا يكاد يذكر ابن عباس، إلا ومعه مولاه عكرمة. ولا يكاد يذكر أبو هريرة إلا ومعه مولاه ابن هرمز.... وما اكثر هذه الامثلة فى الإسلام.
لقد\ أطلت عليك - عامداص فى هذا المجال - يا ولدى؛ فإن هذه الشعوبية هى التى كانت مسمار النعش فى وحدة الإسلام، والتى انتهت بما يسمى زوراً " النهضة العربية " وهى التى قصمت ظهر الخلافة، وشتت العرب أوزاعاً وشيعاً ودويلات هزيلة متناحرة باسم العروبة، والقومية، التى تٌستخدم الآن بلا وعى ولا تدبر.
ولنرجع إلى سؤالك فى تعليل كون بعض الشيوخ الصوفية اوائل من الفرس؛ فهؤلاء الناس اجتهدوا فى هذا الجانب، كما اجتهد غيرهم ممن ذكرنا أسماءهم، فاستحقوا التقديم والإمامة كمسلمين، فإذا قيل:
إنهم فعلوا ذلك ليحطموا الإسلام من الداخل، فهذه قضية، إذا فرضنا نهوض دليلها فى واحد، فلن ينهض هذا الدليل فى كل واحد. وفى كل طائفة طيب وخبيث، والحلال بين والحرام بين، ولو طبقنا قاعدة سوء الظن بالفرس، أو بغير العرب عموماً، لأذهبنا ثلثى علوم الإسلام، ولكان أول ما ننبذه كتاب البخارى، ومن والاه، فهل هذا منطق يقول به إنسان سوى أو قاض منصف؟ (ألا يظن أولئك أنهم مبعثون. ليوم عظيم) " سورة المطففين: الإية 4، 5 " أولا يذكرون قول الله تعالى: {وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار} " سورة: ص: الآية 62."
إن من إحفاد المجوس: من خدم الإسلام أصدق الخدمات فى الثقافات والعلوم، والفتوحات والفنون... وراجع إن شئت من حضرنا ذكرهم وأسلفناه، ومن ورائهم صف شريف طويل معروف، لم نشر إليه، وهؤلاء شأنهم - بالضبط شأن كبار الصحابة (وقد كانوا - أى الصحابة - من المشركين) .

أما تعليل ازدهار التصوف فى القرن السابع، وما بعده بين العرب، والمنسوبين بحق أو بباطل إلى رسول الله - رضي الله عنهم - فإن هذا السؤال يحتاج إلى تكملة: هى أن هذا الازدهار فى هذا القرن وما قبله، كان بين العرب وغيرهم، وكان هذا نتيجة لطبيعة الأشياء؛ فإن تطور الدعوة الصوفية وامتدادها، كان قد أهل الكثيرين للزعامة والاجتهاد فى هذا الوقت، كثمرة للتفاعل، والتطور فيما سبق هذا الزمان.
فمثلاً: نجد من صوفية القرن السابع أمثال أبى الحسن الشاذلى، وأحمد البدوى. وابن دقيق العيد، ومجد الدين القشيرى، وزكى الدين المنذرى - ونجد من قبلهم فى القرن السادس أمثال أحمد الرفاعى، وأبى مدين. ونجد فى القرن الخامس، أمثال الغزالى، وعبد القادر الجيلانى. وفى الثالث والرابع أمثال: الجنيد، والشبلى، ومن قبلهم ذو النون المصرى، وأبو يزيد. ومن قبلهم الحسن المصرى، وسفيان الثورى، ومالك بن دينار، وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض، وشقيق البلخى، وحاتم الأصم - بكل ما فى تواريخهم من صدق وكذب، وأصيل ودخيل.
أضف إلى ذلك موضوع التطور والامتداد، وقابلية البيئة، بما كان من الحروب الصيلبيية والتترية والمغولية، واضطراب عاصمة الخلافة ببغداد، ومثل هذه الظروف بطبعها تدفع الناس إلى الله تلقائياً، وقد جربنا نحن أخيراً فى العاشر من رمضان، فمن أجل هذا وما هو منه، أو يتعلق به، كان هذا الازدهار الذى تشير اليه.
***
السؤال السادس
من الاتهامات الموجهة إلى التصوف:
- أنه لا سند له من الكتاب والسنة.
- أنه دخيل على الإسلام.
- أنه يدعو إلى عقائد تتعارض مع عقيدة التوحيد، كالحلول، والاتحاد والوحدة.
- أنه يدعو إلى تقديس المشايخ، والاستعانة بهم فى الشدائد، واعتقاد أنهم يملكون النفع والضر.
- أنه يدعو إلى التواكل والسلبية.
الجواب:

- أما أن التصوف لا سند له من الكتاب والسنة. فقول ساقط بعد كل ما قدمنا، فإذا لم يكن التعبد ومكارم الأخلاق ومحاسبة النفس، والأخذ بالأحوط، ومجاهدة الهوى والشيطان، إذا لم يكن كل ذلك له سند من الكتاب والسنة، فقد جهل الناس الكتاب والسنة، وفيما ذدمن أدلة مكررة على أن تصوف المسلمين هو عصارة الإسلام وإكسيره، لا يمترى فى ذلك إلا ذو هوى، أو من هوى!؟ .
- وبهذا، وبالذي قدمنا، يتأكد أن التصوف نابع من العقيدة، والبيئة الإسلامية جملة وتفصيلاً، وليس هو بدخيل على دين الله، إنما الدخيل، هو هذه الدعوى العصبية المتشنجة، التى تفوح بالغرض، والمرض، وحسبك أنها بضاعة استشراقية، استعمارية صهيونية، لا هم لها إلا انتقاض الإسلام.
- أما أن التصوف يدعو إلى عقائد الحلول والاتحاد والوحدة، فليس هذا هو تصوف المسلمين، وإنما هو تصوف أجنبي، أعجمي، مدسوس والمتهمون به نفر معدود محدود، انتهى أمرهم، وليس لهم اليوم تابع ولا وارث، كما قدمنا، وأصبح ما نسب إليهم بحق أو بباطل، سواء قبل التأويل، أو لم يقبله، نوعاً من الحفريات التاريخية، التى لا يتابعها إلا الهواة والمتخصصون، إن وجد اليوم هواة أو متخصصون فى البحث عن مقابر الأفكار المهملة، وإلا أصحاب الهوى الذى يعمى ويصم، ولا اعتبار لأولئك وهؤلاء.
وقد اصبح الكلام اليوم فى هذا الجانب نوعاً من مجرد الإثارة والتشويه، والعبث وإضاعة الأوقات، والتشويش على أفاضل الناس وشراء العاجلة بالآجلة.

وإنما يقول الصوفية بنوع معين من الفناء، فصله الشيخ ابن تيميه فى (رسائله) بشئ من الإنصاف، وأشار إليه الشيخ ابن القيم فى شرحه على كتاب الهروى " كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام: عبدالله بن محمد بن إسماعيل الآنصارى الهروى الحنبلى الصوفى المتوفى سنة 481 هـ، شرحه أبو بكر بين قيم الجوزية الدمشقى الحنبلى المتوفى سنة 481 هـ، شرحه أبو بكر بن قيم الجوزية الدمشقى الحنبلى المتوفى سنة 751 هـ، وسماه " مدراج السالكين "
وشتان ما بين هذا والقول الفاجر بالحلول، والاتحاد، والوحدة المنكرة.
- أما أن التصوف يدعو إلى تقديس المشايخ، والاستعانة بهم فى الشدائد، واعتقاد أنهم يملكون النفع والضرر: فهذا كلام فه تجاوز ومغالطة؛ فإن التصوف يدعو إلى احترام الشيخ كوالد روحى، وهو أدب إسلامى مقرر، لا خلاف عليه. وفى الحديث الصحيح " ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ولم يعرف لعالمنا حقه " رواه الترمذى عن ابن عمر، وأبو يعلى عن أنس، والعسكرى عن عبادة ابن الصامت، والقضاعى عن ابن عباس "، ولا تنس تأديب الله للصحابة مع رسول الله - رضي الله عنهم -، فهو أصل أدب التابع مع المتبوع " راجع سورة الحجرات ".
أما الاستعانة بدعاء الشيخ، وابتهاله إلى الله فى شدائد ابنائه، فهو أدب إسلامى ثابت، يعرفه كل من قراً (باب الدعاء) فى كتب المسلمين.

أما أنهم يزعمون أنهم يملكون النفع والضرر، فالذى يملك هو الله وحده، وعندما يغضب الشيخ لربه من مخالف لله فيدعو، فيغضب الله لغضب وليه، ويستجيب له، فلا يقال عندئذ إن الشيخ يملك نفعاً ولا ضراً، إنما هو من باب: "" لئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه " وم نصوصه، ما رواه الطبرانى فى معجمه الكبير عن أبى أمامة رسول الله - رضي الله عنهم - قال: قال الله تعالى: (ما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فاكون سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ولسانه الذى ينطق به، وقلبه الذى يعقل به، فإذا دعانى أجبته، وإذا سألنى أعطيته، وإن استنصرنى نصرته، وأحب ما تعبدنى عبدى به: لى ".
والقول بغير هذا إنما هو مسخ للصورة بالمغالاة والإغراق والتنفير.
وإذا كان هناك شئ من ذلك فرضاً جدلياً فهو مما يعالج بالبيان والإرشاد والقول الطيب، ونحن أمة تحكمها الأمية، فلا ننكر أن فيها ضلالة وجهالة، وإنما فى حاجة - أشد الحاجة - إلى النصح والتوجيه بالحكمة البالغة، والموعظة البليغة.
- بقى القول بأن التصوف يدعو إلى السلبية والتواكل.
التصوف الحق هو: الإسلام، وليس فى الإسلام سلبية، ولا تواكل، وإنما هى أمراض اجتماعية لصقت بالتصوف زوراً وبهتاناً، وقد كان عبد الله بن المبارك، يحج عاماً ويجاهد عاماً، وقد كان شقيق البلخى فارساً مغوراً، يطلب الموت حتى استشهد فى سبيل الله، وكذلك كان حاتم الاصل، مقاتلاً بارعاً، له فى الجهاد مواقف وكرامات.
وقدمت أن أبا الحسن الشاذلى كان صاحب مزارع وتجارات، وأن شمس الدين الدمياطى بنى برج دمياط من ماله الخاص، ومن ربحه من تجارته.

وغذ1 تتبعت آداب المريدين بالصوفية، لوجدتهم جميعاً يدفعون تلاميذهم إلى العمل والإنتاج، ويعرفون تماماً كل ما ورد فى هذا الباب عن النبى - رضي الله عنهم -، ثم عن أشياخهم فى الله الذين يؤكدون لهم أنه لا يمكن تحقيق خلافة الله على الأرض بالسلبية والتواكل والاستسلام، فإذا تغالى أو تطرف واحد، فليس هو كل واحد.
ولقد ثبت فى الحديث أن بعض الصحابة تغالى بأكثر مما يفعل الرهبان، والنبى - رضي الله عنهم - حىّ، فنهاهم الرسول - رضي الله عنهم - " وحديث نهى النبى - رضي الله عنهم - عن التبتل متفق عليه، ورواه الإمام أحمد، وأبو دواود عن سعد، وأحمد الترمذى والنسائى وابن ماجه عن سمرة.
وروى الدرامى عن سعد بن أبى وقاص " رضى الله عنه " أنه قال: " لما كان من أمر عثمان ابن مظعون قال: يا رسول الله: إنى رجل تشق على هذه العزوبة فى المغازى فتأذن لى يا رسول الله فى الخصاء فأختصى؟
قال: لا، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصيام فإنه مجفرة ".
لإذا انفرد واحد بمغالاته، فليس هذا بقانون ولا قاعدة فى الجميع، ولا بعار يؤخذ به سواه.
نزل أحد المريدين على زاوية الشيخ ضيفاً، فأقراه ثلاثة أيام.
ثم قال له: يا ولدى قد انتهت مدة الضيافة.
فقال المريد: إنما جئت لأتصوف.
فقال الشيخ: " ليس التصوف عندنا أن تصف قدميك وغيرك يمون لك، ولكن أبداً برغيفيك فأحرزهما، ثم تصوف، ثم اجعل منشارك مسبحتك، واذكر على دقات الفأس والمكوك ".
وقد كانت الألقاب الصوفية تدل على ما يتناولونه من حرف ومهن وصناعات:
فمنهم الدقاق، والسماك، والوراق، والخواص، وهكذا تعرف أنهم كانوا بحق أمثالاً للمسلم الكامل إيماناً، وعملاً وإيجابية، وصلة كبرى بالله.
فالتواكل مرض دخيل على التصوف الصحيح، يعالجه صوفية العلماء، كل بأسلوبه.
* * *

السؤال السابع
أولياء الله، من هم؟  وهل يجوز تعيين ولى لله بالاسم؟ وهل الولاية تورث بالأسرة؟
الجواب:
أولياء الله هم عباده الصالحون، الذين نسلم عليهم فى كل صلاة كلما قرأنا التشهد، وعلى رأسهم الأنبياء، عليهم صلوات الله وسلامه، ثم يليهم فى ولاية الله أتباعهم، فأصحاب سفينة نوح، وأصحاب ميقات موسى، والحواريون مع عيسى والراشدون، ومن تبعهم بإحسان، والائمة من أمة مولانا رسول الله - رضي الله عنهم -، كل أولئك، ومن على أقدامهم هم الأولياء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ".
والشرط فى الولى: الإيمان، والتقوى، كما جاء فى الآية {الذين آمنوا وكانوا يتقون} " سورة فصلت، الآية: 18 " ثم (الصلاحية للنيابة عن حضرة المصطفى - رضي الله عنهم - {والله يتولى الصالحين} " لقوله تعالى {وهو يتولى الصالحين} من سورة الأعراف، الآية: 196 ".
فالصلاحية بمعنى الصلاحية التى تستوجب كفاية معينة فى الجوانب الثقافية والروحية،
والذاتية والتعبدية، حتى يكون العبد أهلاً للتبليغ، ووارثة النبوة، وسيادة البشرية {ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها عبادى الصالحون} " سورة الأنبياء، الآية: 105 وهنا ينكشف البون الهائل، ما بين (الولاية) و (البلاهة) ، وما بين (الولاية) و (الاحتراف) ، وأن الولاية كسب غال بمجهود أغلى أو هى اجتباء بحكم المشيئة الإلهية، كما جاء بالآية {الله يجتبى إليه من يشاء، ويهدى إليه من ينيب} " سورة: الشورى، الآية: 13) .
وتعيين رجل توافرت فيه الشروط بوصف الولاية، لا يتعارض مع مبادئ الإسلام - فيما أعرف - وقد وصف علماء الحديث رجالاً بأوصافهم لا حرج.
أما أن الولاية ميراث حتمى: فذلك ما لاعلم للتصوف به.
ولابد هنا من الإشارة إلى أننى أتحدث عن (التصوف) ، وهناك شئ آخر نسميه (المتصوف) وهذا هو الذى أساء إلى التصوف، ومازال، وسوف يبقى كذلك، ما لم يشأ الله شيئاً، وما لم ينقذ الله التصوف من التردى الذى يعانيه.

كما أنه لابد من الإشارة إلى أن للولاية معانِ شتى جاءت بها كلمات القرآن والحديث، تدور حول أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، وقد حصرنا الكلام هنا، فيما نرجح أنه المقصود وفى الحجم المطلوب للصحيفة. (فنحن هنا للقارئ عناوين ومؤشرات فقط وللبحوث مقام آخر) .
* * *
السؤال الثامن:
لماذا يبدى الصوفية ولعاً شديداً:
- بإقامة الأضرحة؟  - وبإقامة الموالد؟  - والتماس بركة الموتى؟ ...
وما سند ذلك من الكتاب والسنة؟
الجواب:
- الصوفية لا ييأسون من الموتى {كما يئس الكفار من أصحاب القبور} " آخر سورة الممتحنة " وهم يرون أن الموت مرحلة من مراحل السفر الإنسانى الكادح إلى الله، فالميت عندهم حى حياة برزخية، وللميت علاقة أكيدة بالحى، بما صح عن رسول الله - رضي الله عنهم - من احاديث، رد الميث السلام على الزائر، ومعرفته، وبتشريع السلام على الميت عند قبره، ومحادثته - رضي الله عنهم - لموتى (القليب يوم بدر) ، كما وردت فى عدة أحاديث ثابتة.
ومن القرآن حسبك قوله تعالى {ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم} " سورة آل عمران، الآية: 17} - فهناك إذن علاقة مؤصلة بين الحى والميت، وإلا الدعاء والسلام على الميت موجهاً إلى الأحجار!!
ومعنا رسول الله - رضي الله عنهم - لأهل البقيع، والسلام عليهم وتكليمهم والدعاء لهم.
وللأمام ابن قيم الجوزية (تلميذ ابن تميمة، وحواريه، ووارث دعوته) له كتاب الروح وقد أثبت فيه كل مذهب الصوفية، بما لا مزيد عليه، فى موضوع الحياة بعد الموت، وعلاقة الأرواح بالأحياء، ولابن أبى الدنيا فى ذلك تأليف مفيد.

والصوفية يعتقدون: بحق: أن الولى فى الدنيا ولى بخصائصه الروحية، وماهبه الرهبانية، والخصائص والمواهب من متعلقات الرواح، ولا ارتباط لها بالأجسام ألبتة، فالولى حين يموت ترتفع خصائصه ومواهبه مع روحه إلى برزخه، ولروحه علاقة كاملة بقبره؛ بدليل ما قدمنا من السلام عليه وده السلام... إلخ. ومن هنا جاء تكريم هؤلاء السادة الصالحين من أصحاب القبور.
وقد ثبت أن رسول الله - رضي الله عنهم - وضع حجراً على قبر بعض الصحابة، وهو عثمان بن مظعون رضى الله عنه " فى أسد الغابة: أنه لما توفى سيدنا إبراهيم بن رسول الله - رضي الله عنهم - قال: " الحق بالسلف الصالح: عثمان بن مظعون ". وأعلم النبى - رضي الله عنهم - قبر عثمان بن مظعون بحجر، وكان يزوره "، وقال: " أتعرف به قبر أخى " وكان هذا الحديث، بعد حديث على - رضي الله عنه - بتوسية القبور المشرفة، فاستدلوا به على جواز اتخاذ ما يدل على القبر، وعلى فضل صاحب القبر بلا إغراق ولا مبالغة، رجاء استمرار زيارته، والدعاء له والقدوة به، والصدقة عليه، وحفظ أثره.
ومن هنا نقل الميت من مكان إلى مكان أفضل، كما صح فى حديث جابر غيره.
ثم بالغ بعض الناس فى لك - بحسن نية من جانب، وخوف اندثار القبر من جانب آخر - فاتخذ الآمر بالتطور الصورة التى تراها، وقالوا: إن الأمر يدور مع علته، وقد كانت علة تسوية القبور، والمنع الأول من زياراتها، هى مخالف الانتكاس والعودة إلى الشرك، وقد استقر الإيمان والتوحيد فى قلوب الناس، (وإن أخطأت أحياناً ألسنتهم) فلا باس بعمل ما يذكر الصالحين للقدوة والاعتبار، والقيام بحق صاحب القبر من الزيارة وغيرها
(وقد نقلنا آراء علماء المذاهب فراجعها فيما يأتى) .

هذه هى وجهة النظر عندهم بصفة عامة: وهى على علاتها - أبعد شئ عن التهويل بالشرك والوثنية، والكفر والرردة، واستحلال ماء المسلمين، وقد مرت السنين على هذه الأضرحة ن فما عبد منها ضريح من دون الله - ولا صلى مسلم لولى ركعة، والمثل العملى مضروب بقر سيدنا رسول الله - رضي الله عنهم - وقبور كبار الائمة.
أما ما يكون على عادة من بدع الزيارات ومناكرها، فأمور يمكن تقويمها بالتعاون على علاجها بالتى هى أقوم.
وإننى مستيقن - سلفاً بأن هذه الكلمات بالذات، ستنبرى لها ألسن وأقلام احترفت خثومة هذا الرأى، واتخذته أساس مذهبها، وهو كل دعوتها وبضاعتها، ولكنى أعرض الرأى، ولا أدعى العصمة، ولا أحتكر الصواب، وأرى أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا ما جاء عن الله ورسوله. بقدر ما أعرف سلفاً، كافة النصوص المقابلة، ووجهات النظر الأخرى، فالحديث هنا قديم ومكرر، لا جديد فيه على الإطلاق، والتقريب بين وجهات النظر ممكن. ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله، وارجع إن شئت إلى ما كتبناه بتفصيل عن التوسل والقبر فى رسالة (قضايا الوسيلة والقبور) .
- أما الاحتفال بالمولد: فهو ما لم يكن بصورته هذه فى الصدر الأول، وهو - على وضعه الحالى - فيه المقبول والمرفوض، وإن كان المرفوض قد غلب فعلاً على المقبول، ولابد من وقفة إصلاح؛ فإن القائلين بالإلغاء يطالبون بغير الممكن أصلاً، ولا ينظرون إلا إلى الجانب المرفوض وحده.
أن أول من احتفل بذكرى المولد النبوى، هو الملك المظفر (طغرل) ملك (إربل) العراق، بموافقة الإمام أبى شامة، والعلماء.
ثم التقط الفاطميون الحبل، فزودا وتوسعوا.
وقد التمس علماؤنا الدليل، فوجدوا أن الله كرم يوم الولادة، ويوم الموت، والبعث مرتين، مرة بلسان القرآن، وأخرى حكاية عن لسان عيسى عليه السلام " {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت يبعث حياً} - {والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً} " سورة مريم.

أذن فبيوم الولادة منزلة عند الله، ثم نظروا فوجدوا أن رسول الله - رضي الله عنهم - كان يلازم صوم يوم الاثنين من كل أسبوع! فسئل فى ذلك، فقال: " هو يوم ولدت فيه، وأنزل على فيه " كما ثبت فى الحديث الشريف.
ومعنى هذا: أنه - رضي الله عنهم - كان يحيى ذكره مولده الشريف، شكراً لله تعالى فى كل اسبوع مرة بالصيام، وربما بما تيسر له من خير، فهو يوم من أيام الله، وقد أهتم رسول الله - رضي الله عنهم - بأيام الله، كما فعل فى يوم عاشوراء، وكما فعل فى (سبوع) الحسن والحسين، بالإضافة إلى ما ورد من أنه ذبح - رضي الله عنهم - فى حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة، بعدد سنى عمره الشريف.
ومن مجموع هذا، وما هو منه، يمكن استنباط مشروعية إحياء الموالد، لما فيها من الذكريات النافعة، والعبر الموجهة، وبما فيها من تلاوة القرآن، والوعظ والإرشاد، والذكر الصحيح، والثقافة، ثم بما فيها من التعرف على البر والتقوى، والرواج الاقتصادى والصدقات، والحركة الاجتماعية؛ فهى بهذا الوصف أسواق خير ونفع عام لا تضيق به اصول الأحكام الشرعية، ولا فروعها، بل إنها تدعو إليه، وتحض عليه
ثم إن الله تعالى يقول: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} " الانبياء: الاية: 107 " إذن، فليوم الولادة منزلة عند الله، ثم نظروا أن رسول الله - رضي الله عنهم - كان يلازم يوم الإثنين من كل أسبوع! فسئل فى ذلك، فقال: " هو يوم ولدت فيه، وأنزل على فيه " كما ثبت فى الحديث الشريف.
ومعنى هذا: أنه - رضي الله عنهم - كان يحى ذكرى مولده الشريف، شكراً لله تعالى فى كل اسبوع مرة بالصيام، وربما بما تيسر له من خير، فهو يوم من أيام الله، وقد اهتم رسول الله - رضي الله عنهم - بايام الله، كما فعل فى يوم عاشوراء، وكما فعل فى (سبوع) الحسن والحسين، بالإضافة إلى ما ورد من أنه ذبح (- رضي الله عنهم -) فى حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة، بعدد سنى عمره الشريف.

ومن مجموع هذا، وما هو منه، يمكن استنباط مشروعية إحياء الموالد، لما فيها من الذكريات النافعة، والعبر الموجهة، وبما فيها من تلاوة القرآن، والوعظ والأرشاد، والذكر الصحيح، والثقافة، ثم بما فيها من التعرف على البر والتقوى، والرواج الاقتصادى والصدقات، والحركة الاجتماعية؛ فهى بهذا الوصف أسواق خير ونفع عام لا تضيق به أصول الأحكام الشرعية، ولا فروعها، بلى أنه تدعو ايه، وتحض عليه.
ثم إن الله تعالى يقول {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} " الأنبياء: الاية: 107"
ويقول - رضي الله عنهم -: (إنما رحمة مهداة " وقد أمر الله تعالى أن نفرح بفضله ورحمته - رضي الله عنهم - قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا} " سورة: يونس - رضي الله عنهم -، الآية: 58. فإحياء ذكرى مولد الرسول الله - رضي الله عنهم - بالمشروع من العبادات والخيرات ونحوها، إنما هو فرح برحمة الله، فهو تنفيذ لأمره تعالى.
كذلك نحن مأمورون بالشكر على النعمة، وما جاء به رسول الله - رضي الله عنهم - بشروطها: نوع منشكر النعمة، وهو واجب قرآنى صريح.
وعلى نحو ذلك أو بعضه ينسحب حكم مشروعية إحياء ذكريات موالد الله جميعاً، بشروطها المقررة.
وهنا يجب أن نقرر أيضاً القاعدة العلمية الثابتة: بأنه ليس كل ما لم يكن فى الصدر الأول هو حرام، وإلا فلم يبق فى حياتنا شئ حلال.
وفيما عدا هذا - مما اندس فى هذه التجمعات من امفاسد الخلقة والينية والاجتماعية وغرها - فالحكومة والصوفية الرسمية، والجمهور، هم المسئلون جميعاً عنها، فى الدنيا والآخرة. وهو شئ عم وطم واورث الهم والغم.
* * *
السؤال التاسع
يقول الصوفية بضرورة وجود الشيخ، لتوصيل المريد إلى ربه، ويقولون: من لا ضيخ فالشيطان شيخه، فهل هذا صحيح؟
الجواب:
يا ولدى: الصوفية فى هذا يصدرون عن صحيح الشريعة، وصحيح لطبعة، وصحيح التجربة، وصحيح التجربة، وصحيح الممارسة والواقع.

أما الشريعة فالله تعالى يقول: {فاسألوا أهل الذكر} " سورة الأنبياء، الآية: 7 " ويقول {الرحمن: فاسأل به خبيراً} " سورة الفرقان، الآية: 59 " ويقول {ولكل قوم مهاد} " سورة الرعد، الآية 7 " ويقول: {ولا ينبئك مثل خبير} " سورة فاطر، الآية: 14 {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} " سورة الأنعام، الآية: 90. {واتبع سبيل من أناب إلى} " سورة لقمان، الآية: 15. {وقد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه} . وفى الحديث الثابت: هلا سألوا، فإن دواء العى السؤال! " " سورة الممتحنة، الأية 4 ".
وإذن: فلابد من هاد= قدوة سئول، ذا ذكر، خبير بوسائل الفرار إلى الله، والهجرة إليه، ألم تر إلى موسى كيف طلب المرشد ليتبعه، كما جاء فى سورة الكهف، وكيف كان أدب موسى مع مرشده.
ولذا كان لابد لطالب حفظ القرآن من المقرئ الموقف الخبير بأحكام التلاوة، وصحة الأداء، ولو ترك القارئ العادى لنفسه، لاستحال عليه أن يحصل حق التلاوة وصحة الأداء، وبالتالى ربما اضطربت معه مفاهيم الآيات، وغابت الأحكام، وقل ذلك فى علوم الدين واللغة، وكل علوم الدنيا فكرية كانت أم عملية، حتى الحرف والمهن والصناعات، مهما علت أو دنت، لابد لها من اختصاصى يلقنها ويكشف أسرارها، فما لم يكن للمرء شيخ فى العلم ضل وافترسه الشيطان، واستهواه وجعل إلهه هواه، فهلك.
وما لم يكن للمرء معلم فى بقية الصناعات لما أصاب ولا أجاد وربما أهلك وهو يطلب الحياة، ومن هنا كان لابد للسالك إلى الله من غمام يرشده ويوجهه ويسدده، ويكشف له أحابيل الشيطان، فى العبادات والمعاملات، والخطرات النفسية والإرادات القلبية، والواردات التى قد تكون أخطر على صاحبها من الكفر على صاحبها من الكفر الصريح.
يا ولدى: فكر فى مو4ف الإمام فى الصلاة، وفى تلقى الرسول عن جبريل عليهما الصلاة والسلام.

ولهذا سجل كبار ائمتنا أخذهم وتقيهم عن كبار شيوخهم، كابراً عن كابر، بالإجازة الشريفة، والثبت المحكم، وسواء فى العلوم، او فى تلقى البيعة الصوفية، واتصال السند، ولا يزال فى عصرنا هذا يستعد الطالب لأعلى درجات الثقافة (الدكتوراه مثلا) ولابد له من مشرف يشاركه رحلة العلم والجهد {وما يستوى الأعمى والبصير} " سورة الرعد، الآية: 16 "
وقد تلقينا من قواعد أهل العلم (غير الصوفية) قولهم: " لا تأخذ العلم من صحفى ولا القرآن من مصحفى ".
و" الصحفى ": هو الذى جمع محصوله من الصحف وحدها، دون مرشد.
و" المصحفى ": من قرأ القرآن وحده، من غير موقف، وهذا مجرح عند اهل العلم.
ثم تأمل مرة أخرى بعثة الرسل إلى الناس، ونزول جبريل - رضي الله عنهم - على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتوجيه والهداية.
ولا تنس يا ولدى: أن التقاء روح الطالب والأستاذ، وتبادل الود، ووحدة الإرادة، واندماج الشخصيتين بالحب والتسامى، وقصد وجه الله: فيه أثر روحى ونفسى مقرر عند أهل العلم بالقديم والحديث، وحين يكون السند موصولاً، يكون من ورائه سر مجر، يسميه الصوفية (بركة السند) ، وإن لم يؤمن الجاهلون بسره ألا ترى قوله تعالى:... {وداعياً إلى الله بإذنه} " سورة الأحزاب، الآية 46. تأمل، فمن هنا تبدا البركة، ثم تتسلسل!!
وأظن فى هذا الإجمال كفاية إن شاء الله، وإلا فـ {إنك لا تهدى من أحببت} " سورة القصص، الآية: 56.
* * *
السؤال العاشر
- ما هو الحكم فى استخدام الرقص والطبل والزمر والغناء (والحركات غير اللائقة فى كثير من حلقات الذكر) ؟!
- تحريف أسماء الله تعالى؟!
و (أه، أه) أو (هه، هه) ؟!
- إصدار الأصوات الساذج بنحو (ها) و (أه، أه) أو (هه، هه) ؟!
- اشتراط أن يتخيل الذاكر شيخه بين عينيه؟!
- الاعتراف للشيخ بالذنوب والمعايب؟!

الجواب:
أشرتم إلى أننى - وأستغفر الله - من قادة الفكر الدينى المعاصر، وأحد المصلحين الصوفيين، فجزاكم الله عن حسن الظن بحسن الثواب.
وأنا امرؤ أعرف - بحم الله - نفسى فلا أعدو قدرى. ولا أستشرف إلى هذه القيمة المتسامية، لكننى لا انكر فضل الله على فى أننى شاركت - بكل طاقتى - فيما زعمت لنفسى أنه يرضى الله - من خدمة التصوف خاصة، والإسلام والوطن عامة، ولا أزال بحمد الله رغم ما أعانى.
ولابد من تسجيل حادث تاريخى فريد، مما عانيت فى سبيل الإصلاح الصوفى (ولا أزال) ؛ ففى الخمسينات، عندما ألححت فى المطالبة بالتطوير، والإصلاح الصوفى، حتى استجابت الحكومة، وألفت لجنة للإصلاح الصوفى برياسة محافظ القاهرة، وكنت مقرر هذه اللجنة بوصفى صاحب الاقتراح، وخبيراً فى الشئون الصوفية، ثم شكلت لجنة من بعدها برياسة وزير الأوقاف لنفس الغرض، وكنت مقررها أيضاً لنفس السبب (وكان الوزير فضيلة الأخ الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقورى رحمه الله تعالى) .
من أجل ذلك: اجتمعت الجمعية العامة للطرق الصوفية من اكثر من ستين شيخاً بمسجد الإمام لحسين، وقررت بالإجماع (فصلى نهائياً من الطرق الصوفية) وتجريدى من النسبة إليها!!
وكانت هذه أول مرة فى التاريخ الصوفى الرسمى، يفصل فيها (شيخ) !! حتى رد مجلس الدولة " إلى اعتبارى!؟ وكانت قصة، إنما هى غصة، وكفى التلميح إليها لتعرف كيف أحيا ماضياً على شظايا الزجاج المحطم بين (أعداء) التصوف، (أدعيائه) وهذا قدرى، ولا يزال.
ثم كان من فضل الله: أن استمرت الحكومة فى النظر فى هذا الإصلاح على أساس مذكراتى وتقريراتى السالفة، وغيرها، حتى صدرت اللائحة الصوفية الأخيرة - بعد ولادة طويلة عسيرة - كخطوة كبيرة، فى سبيل تطهير التصوف وتطويره وإصلاحه، وقد سجلت بعض ملاحظاتى عليهاا، وإن كانت اللائحة فى مجملها شيئاً حسناً فى خدمة تصوف المسلمين - إن أمكن التطبيق الصحيح - رغم ما لى عليها من مآخذ أساسية.
وبعد:

وأولاً: فأما استخدام الراقص، والطبل، والزمر، والغناء - فيما يسمى حلقات الذكر - فليس من دين الله (قولاً واحداً) ساء عند أئمة الصوفية، أو غير الصوفية، وإنما هو من الدخيل، والدسيس الذى تسلل إلى التصوف، فأفسده، وأساء إليه.
ينقل الشيخ (ابن الحاج) فى مدخل (الشرع الشريف) :
قلنا: وقد عاب الله نحو ذلك على المشركين من قبل، فقال: {وما كان صلاتهم عند البيت، إلا مكاء وتصدية} " سورة الأنفال، الآية: 35. يعنى تصفيراً وتصفيقاً! وهما من لوازم الطبل والزمر والرقص!!
إن الرقص، والطبل، والزمر، لاشك هو لهو ولعب، فإذا اتخذناه ديناً، كان افتراء على الله، وهو تعالى يقول: {وذروا الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً} ، " الأعراف، الأية 51 " و {لعباً ولهواً} كما فى آيتى (الأنعام والأعراف) والله لا يأمر بترك شئ هو قربة إليه. فإذا كرر الأمر كان معنى هذا أنه شئ يغضب له غضباً مضاعفاًُ، لما فيه من تعد على حدوده تعالى، وعلى حدوده يقول شاعر الصوفية
يا عصبة ما ضر أمة أحمد... وسعى على إفسادها إلا هى
طار، ومزمار، ونغمة شادن... أتكون قط عبادة بملاهى؟!
وإنما يعبد الله بما شرع وفيما شرع تعالى سعة وكافية، ومتعة روحية بغير حدود، والعبادة جد كلها، وهو تعالى يقول: {لو أردنا أن نتخذ لهواً، لاتخذناه من لدنا، إن كنا فاعلين، بل نقذف الحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق} " سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الآية: 17 "،ـ ومن شاء لهواً مباحاً، فليبتعد به عن العبادة، وعن التصوف.

ولوجهه الله، وللحق فى ذاته ورغم ما أصابنا، ولا يزال - وفى سبيل التجديد والإصلاح الصوفى - نقرر أن مشيخة الطرق الصوفية المعاصرة، أصدرت عدة منشورات، تنهى فيها عن هذا العبث، ولكن هناك أهواء، وخلفيات، ومواريث ومصالح، ونوع من الجهلوت " الجهل المتأصل فى النفس " المستحكم، والاقتدار، بل الإصرار على المخالفة كل ذلك يقف دون التنفيذ الواقعى لهذه المنشورات، حتى كأنها لم تكن، ولكن لابد لهذا الليل من آخر.
ثايناً: أما الغناء والإنشاد، فإن كان ملتزماً، وبشروطه المشروطة شرعاً، فإن له أصلاً فى السنة الصحيحة؛ ففى البخارى وغيره أن سيدنا رسول الله - رضي الله عنهم - وغيره أن سيدنا رسول الله - رضي الله عنهم - كان أصحابه - وهو يشارك فى بناء مسجده الشريف ينشدون:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا... ولا تصدقنا ولا صلينا
فانزلنا سكينة علينا... وثبت الأقدام إن لاقينا

إلى آخر ما قالوا بأصوات منغمة طبعاص على لحون العرب!!
كما ورد أنه - رضي الله عنهم - كان يردد نحو هذه المقاطع على من كان ينشد مع المرديين من الصحابة، وساء فى بناء المسجد، أو حفر الخندق أو غيره، وقد استمع - رضي الله عنهم -: " رويدك، رفقاً بالقوارير "! يريد النساء عن خلف الركب، منهن من لا يقوين على شدة خطو الإبل المأخوذة بجمال الحداء وحسن الصوت، ورقة الأداء والتلحين " تواتر أنه - رضي الله عنهم - استمع إلى غناء الجوارى، عند دخوله المدينة كما استمع إلى المأة التى نذرت أن تضرب له الدف وتغنى.
وقد ثبت أنه - رضي الله عنهم - كان يستمع لبعض " الأراجيز " فى بعض المناسبات والأراجيز شعر ينسد منغماً بلحن عربى موروث، فهو ضرب جاد من الغناء العفيف، فضلاً عما كان يستمعه من الشعر (بلحون العرب) وأصواتها بمسجده.

وتأثر النفس الشريفة باللحن والصوت الجميل طبيعة فى الإنسان الكامل، لا ينكرها رجل سوى قط، ألا ترى أنه سوف يكون من متع الجنة أن يستمع أهلوها كلام الرحمن عز وجل، وكيف اختار رسول الله - رضي الله عنهم - (بلالاً) لأذان، وكيف كان العرب يضربون المثل بصوت وأداء (أبى محذورة) أحد مؤذنى النبى - رضي الله عنهم -، وكيف أنه - رضي الله عنهم - أقام منبراً لحسان فى المسجد ينشد الشعر عليه منافحاً.
ولقد استمع - رضي الله عنهم - لصوت ابن مسعود، فقال: " لقد أوتى هذا مزماراً من مزامير آل دوداد " " الحديث بهذا اللفظ رواه الإمام أحمد والنسائى، وابن ماجه عن أبى هريرة والنسائى عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها.
وكان رسول الله - رضي الله عنهم - يرتل القرآن، ترتيلاً يأخذ بمجامع القلوب الصحاة فيتمنون لو أنه طال وبالغ.
وفى الصحيحين حديث: " حسن استماع الله للنبى حسن الصوت بالقرآن " ومن ألفاظه الحديث: " ما أذن لنبى ما اذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن: يجهره ".
ثم ألا ترى أن الله أبعض لصوت الكريه، فقال تعالى: {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} " سورة: لقمان، الأية: 19 "!! ومن مجموع هذا، وماا هو منه (وهو كثير) . يمكن الحكم على الإنشاد الملتزم بالمشروعية على اقل صور الحكام، إن لم يكن السنية، أو الندب، أو الاستحسان؛ فأن من الإنشاد ما يرتقى بالمرء إلى أسمى معارج الأرواح، إذا كان رقيق القلب شفيف الروح.
وقد أثر عن بعض كبار شيوخ الأزهر، قوله: (من لم تطربه الأوتار، على شواطئ الأنهار؛ فى ظلال الأشجار، وغريد الأطيار، وجوار الأزهار، والنسيم المعطار، ذاكراً فردوس العزيز الغفار: فهو حمار من حمار...)

ثالثاً: أما تحريف أسماء الله الحسنى فى حلقات الذكر: فإجماع أئمة التصوف على أنه حرام موبق، وحسبك فيه قوله تعالى: {ولله الاسماء الحسنى، فادعوه بها، وذروا الذين يلحدون فى اسمائه، سيجزون ما كانوا يعلمون} " سورة الأعراف، الآية 180 فهنا أمر بالذكر، مع نهى شديد عن تحريفه والتحذير عن اصلة بمن يحرفونه، أى يلحدون فيه، وإعلان أنهم سيجزون بسوء عملهم، فيكون هذا الإعلان بمثابة إنذار، ونهى شديد مكرر، حتى ندع من يحرفون أسماءه تعالى، فكيف بحكم المحرفين أنفسهم!؟
وهذا الإلحاد يشمل نحو قولهم " ها، ها " أو " هى، هى " أو " أه، أه " وغير ذلك من الأصوات الساذجة الحمقاء، التى لا تكون أبداً من كرام الناس، ولا أفاضلهم: لا أسلوباً، ولا أداء.
لكن المأخوذ عن نفسه، لا يؤاخذ؛ لأنه ممن رفع عنه القلم ولهذا وجبت التفرقة الشرعية بين هذا وذاك.
وفى هذا يقول الشيخ الأخضرى فى أرجوزته الصوفية:
أبقوا من اسم الله حرف الهاء... فألحدوا فى أعظم الأسماء
لقد أتوا والله شيئاً إداً... تخر منه الشمخات هدا
ويلحق بهذا نطقهم باسم (الله) على غير وضعه الشريف، من نحو ضم ألفه الأولى أو كسرها، مع قصر الفم الوسطى، ومع تخفيف لامه أوتغليطها، مما يخرجها من منطوقه القرآنى إلى منطوق سوقى محرم، وخصوصاً مع ما يسمونه (الدوكة) أى تغليظ الصوت.
أما قولهم (هو، هو) : فهذا اللفظ (ضمير الغائب لغة) وقد ورد فى القرآن الكريم كثيراً من نحو قوله تعالى: {الله لا اله إلا هو} " اية الكرسى " وقوله: {هو الحى لا إله إلا هو} " سورة غافر، الأية 65 - فهو الغائب عن النظر، المشهود بالبصيرة، وقد أفرد افمام الفخر الرازى فى تفسير الفاتحة بحثاً ضافياً، أثبت فيه أن لفظ (هو) ربما كان اسم الله الأعظم - بنحو عشرين دليلاً، نحن فى ذلك معه.

فالمسألة فى لفظ (هو) على أسوأ الأحوال - خلافية، ومادام فى الأمر وجهان ودليلان، فإنه يسعنا ما يسع غيرنا وليس منن العدل تجريم من أختار أحد الوجهين لصحة دليله عنده، والفروع كلها محل خلاف!!
والقاعدة: " متى دخل الاحتمال، بطل الاستدلال ".
(جـ) أما لفظ (آه) فلم يثبت علمياً أنه ذكر به إمام الشاذلية (أبو الحسن) رضى الله عنه ولا كبار تلاميذه - من أمثال: أبى العباس المرسى، وابن عطاء الله " والشيخ الحنفى، ولم يرد له ذكر فى أهم مراجع التاريخ الشاذلى، كـ " درة الأسرار " و " المفاخر العلية "، " واللطائف "، ولكنه منسوب إلى بعض كبار أئمة الشاذلية المتآخرين، ولهم على مشروعية الذكر بعد أدلة شتى، لعل من أقواها، وأحكمها ما كتبه المرحوم الشيخ الظواهرى شيخ الأزهر السابق، ثم ما كتبه المرحو الشيخ عمران الشاذلى فى عصرنا الحديث.
ثم إن الذاكرين بهذا الاسم يقررون: أن له أثراً عظيماً بالممارسة والتجربة ولاد من مراجعة أدلتهم قبل الحكم لهم أو عليهم.
فهو أيضاً نمط من الخلافات الفرعية. ومن الشاذلية من لا يذكرون به، (كالحصافية، والحامدية، والمحمدية) ومن أشد الناس تمسكاً به فروع (الفاسية الشاذلية) .
وكان والدى رضى الله عنه لا يستهجنه، ولا يستحسنه، ويقول: (أنا لا آمر بهذا الاسم، وأنهى عنه) .
وكان يقول: (إن عذرى معى فى التوقف فى هذا الاسم بما له، وما عليه، وما خلاف عليه خير مما فيه الخلاف) .
قلنا: ونجن على الأثر؛ فى نعيب على من يذكر به بدليله، ولا نلوم من لا يذكر به لدليله.

رابعاً: وفيما يتعلق باشتراط تخيل المريد شيخه عند الذكر بين عينيه: فهم يقولون: إن المراد الأساسى من هذا، هو استجماع المهمة، وطرد الشواغل، وتفريغ القلب لحسن التوجه، والاستعداد للاستمداد، فهو وسيلة - مؤقتة - للتجهيز لدخول حضرة الحق، فإذا ما انحصرت الطاقة فى تصور الشيخ، والنبى، وهما يدفعان المريد إلى الله، ويهيئانه للعمل، ثم إذا أخذ المريد فى الذكر، كان أول ما ينطرح على المريد هو الخيال النى، فلم يبق إلا الله الباقى.
هذا هو أصل الموضوع عندهم.
وتخيل صورة الشيخ ليست شرطاً، ولكنها من اوسائل الاجتهادية والتجريبية النافلة. ولهذا لم يقل بها كثير من الشيوخ، اكتفاء بصدق المحبة، والربطة بين المريد وشيخه ونبيه - رضي الله عنهم -، حتى كأنه بينهما.
وفى هذا الموضوع بحوث نفسية عميقة.
وإذا عرفنا أن هذه الحالة - عندهم - إنما تكون قبيل البدء فى التعبد، ولمدة لحظات فقط. ثم يكون الذكر الذى يستغرق كل أحاسيس الذاكر.
إن تخيل النبى - رضي الله عنهم - والشيخ عند الذكر، أشبه شئ بما يخطر على بال المصلى من اخيلة الجنة والنار، والإنس والجن، وأهوال الحشر، وعظمة الله، وهذه صورة لا تبطل الصلاة، ولا تتهم بالوثنية. فالموقف هنا وهنا واحد، وبالتالى يكون الحكم واحداً، فقد انتفت دعوى الوثنية، التى يرمى بها الصوفية - أو بعضهم - فى هذا المجال، تهوراً ومجازفة.
خامساً: ثم تأتى قضية اعتراف المريد لشيخه بذنوبه وعيوبه، فأى حرام فى هذا؟
إنك عندما تذهب إلى الطبيب تذكر له كل ما تشكوه، وما يؤلمك.
وهذا الشيخ هو طبيبك الروحى فى الله، وعقدة الذنب تؤرق صاحبها، فهو يسأل طبيبه الروحى عما عسى أن يطهره ويغسله من خطاياه، وينقذه من آلامه، ووخز الضمير، وهو (النفس اللوامة) فى لغة القرآن والتصوف.
أليس كان ياتى الناس إلى رسول الله - رضي الله عنهم -، فيقول أحدهم مثلاً:

"" هلكت يا رسول الله، فقد فعلت كذا وكذا " كما حدث مثلاً فى قصة " ماعز " وقصة " الغامدية " واعترفهما بارتكاب الخطيئة لرسول الله - رضي الله عنهم - يدل المعترف بخطئه على لو عمل به تقبله الله، وعفى عنه؛ فإن من الفطرة ضرورة الإفضاء والاستنصاح " والدين نصيحة " رواه البخارى فى التاريخ عن سيدنا ثوبان رضى الله عنه، والبزار عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه ".
أليس الله يقول {فاسألوا الذكر " سورة الانبياء، الاية: 7 "}
ثم أن الآيات القرآنية كلها تدل على أن المؤمنين - بل وغير المؤمنين - كانوا يأتون إلى رسول الله - رضي الله عنهم - يسنبئونه، ويستفتونه، فى مثل قوله تعال: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآيتنا، فقل سلام عليكم.. {" سورة الانعام، الآية: 54.
وقوله تعالى: {ولو إنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله...} " سورة النساء، الاية: 64 وقوله تعالى: {فإن جاءوك فاكم بينهم...} " سورة المائدة، الآية: 42 وقوله تعالى: {يا ايها النبى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك..} " سورة الممتحنة، الآية: 12 "
فكلها حث على المجئ إلى أهل الصلاح وطلب النصح منهم، أو الفتوى، او التوجيه، ولا يكون ذلك إلا مع بيان طلب الاستيضاح أو الاستفتاء، فكان هذا جميعاً من أسباب الإفضاء إلى الشيخ بالنوب أو العيوب، طلباً للتعرف على ما يرضى الله، وما يكون سبباً للإنابة والمتاب.
ثم أليس يستشير الرجل من هو اعلم منه، ليستفيد من تجربته أو خبرته أو سوابقه فى معاناة الأمور؟
أليس يقض الأخ إلى الاخ بما يؤرقه ويقلقه طالباً نصحه وتوجيهه؟ وهل اتخاذ الشيخ إلا من اجل تنقية النفس من أوضارها، وترقيتها فى معارج السالكين؟
فلست أرى ممنوعاً - شرعاً، أو وضعاً - ان يطلب المريد نصيحة شيخه فيما واقعه من مثالب وخطايا، ليدله على وسيلة النجاة، وفى القرآن {وأمرهم شورى بينهم} " سورة الشورى، الآية: 38 "
وأظن ما قدمته كافياً الآن، فى هذا المجال

ولا اعتراض بأن: هذا يشبه نوعاً من الكهنوت فى الاعتراف لرجال الدين (وهى كلمة " كنسية " وإما كلمة الإسلام فهي " علماء الشريعة " وفوق كبير بين هذا وذاك.
فالفارق هائل ضخم؛ فهناك يعتقدون أن مجرد الاعتراف كاف فى محو الخطيئة، وأن الاعتراف الذى يقبله الكاهن، يقبله الكاهن، يقبله الله حتماً.
أما هنا: فإنما يدل الشيخ مريده على ما به يرضى الله عنه، من توبة واستغفار أو صدقة، أو عبادة، ثم يدع ما وراء ذلك لله وحده، إن شاء قبل، وإن شاء لا، وهذا فارق ما بين الشرك والتوحيد.
* * *
السؤال الحادى عشر
?ما حكم التضرع والتوسل بأصحاب الأضرحة؟!
?وما حكم الاستخدام الشائع لكلمة " مدد " والمدد لله وحده؟!
الجواب:
مسألة التوسل إلى الله بما يحب، وبمن يحب، مسالة قديمة، تناولتها طبقات من السلف والحلف، بين الرفض والقبول، وكما مال إلى الرفض أمثال الشيخ ابن تيمية، مال إلى القبول أمثال الحافظ ابن حجر والإمام الشوكانى، وبخاصة فى كتابه " الدر النضيد ".
والأمام الآلوسى فى ذلك تفصيل مفيد
والإسلام متفق على صحة مبدأ التوسل، والخلاف كله على اللفظ والكيفية والاتجاه، والأدلة هنا لا يتسع لها مقال، وقد سبق أن نشرت لى (التعاون) ما يكفى، وعليك أن تراجع ما كتبناه فى رسالة " الوسيلة " ففيه التفاصيل الكافية.
والمهم فى هذه المسألة المتشعبة الجوانب، الفسيحة الرحاب أن يوجه الطلب إلى الله وحده، ون يكون ذكر المتوسل به - لمن شاء التوسل - نوعاً من تأكيد الطلب، بالاعتراف بالتقصير والتفريط فى جنب الله، مما يخجل معه المتوسل أن يكتفى بدعائه، وهو ليس أهلاً للاستجابة، فيستشفع إلى الله بما (أو بمن) يغلب على ظنه أنه مقبول عنده فى رجاء إلا يرد أو يرفض.
وما دام الطلب إلى الله، وإلى الله، ابتداء وانتهاء، كقول القائل:

" اللهم إنى أسألك كذا وكذا، متوسلاً إليك بكذا " فلا خطأ، ولا شرك على الإطلاق، وقد ذهب إلى هذا المرحوم الإمام حسن البنا، واعتبرها من الخلافات الفرعية.
وليس التوسل واجباً، وإنما هو اختيار لمن شاء، على ألا يكون الطلب موجهاً إلى العباد، سواء أحياؤهم أم أمواتهم، فإذا أخطأ الجاهل - مع هذا - وطلب من العبد، فإنه يعلم ويرد إلى الصواب، ويكفيه نيته وحسن اعتقاده، وعلمه اليقينى - مهما كان أميا جاهلاً - بأن الله هو الفعال، وإنما العبد وسيلة، لا يملك مع الله شيئاً.
وإذن فلا نخرجه من الإسلام بجرة قلم، أو انفعال لسان؛ فإن هذا أمر خطير، لا يملكه أحد، وإن كان قد شاع تكفير الناس فى أيامنا هذه بما لا يقبله عقل ولا دين.
أما الأدلة فتشى، لا يحتملها مقال، ولا عشر مقالات، ولكنى أفضل - كما قلت - أن تقرا بحثاً كنت كتبته فى هذا الباب، وطبعته " مجلة مسلم " فى رسالة خاصة هى رسالة (قضايا الوسيلة والقبور) ، وتحقير أهل البيت النبوى، وأولياء الله، من أقرب وسائل الثراء المربح، وسرعة التعاقد على العمل المأمول فى بلاد البترول! وأيسر وسائل الشهرة، وبناء العمارات، وركوب الطائرات، وحيازة السيارات...... فافهم....!
·?أما قولهم "مدد ": فإن نعمة الإيجاد والإمداد كلتاهما لا تكونان إلا لله، ومن الله عز وجل، فالحياة الأولى والآخرة جميعاً، ومحتوى الملك، والملكوت كله، إنما هو من إيجاده، وإمداده تعالى. وهو يقول: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك} " سورة الإسراء، الآية: 20 " وهى أية كاملة شاملة، ومؤادها فى معنى: {قل كل من عند الله} سورة النساء، الآية: 78.
والعبد سبيل أو سبب، ولكل شئ سبيل وسبب.
فطالب المدد: إن كان يطلبه من شيخ حى، فهو إنما يريد بالمدد:
طلب العلم، أو الإرشاد، أو الدعاء، قلبياً كان أو نفسياً، أو تلقى السيالات، والتيارات الروحية من طاقات الشيخ المشحون بأسرار الإيمان، وقوى التعبد، والعلاقة بالله.

ولكل مخلوق ميالات وتيارات كهربية ومغناطيسية مؤثرة، أثبتها العلم القديم والجديد، واستدل بما فى الإنسان من الشجاعة والمروءة، والهمة، ونحوها، فكلها قوى خفية، سميناها بالأسماء، ووصفناها بالأخلاق، ثم قررها علم النفس الحديث، واتخذ من " الحسد " دليلاً على القوى الشريرة فى الإنسان، وهذا يثبت إن للإنسان - بالمقابلة دليلاً قوى خيرة، تؤثر فى الغير بمثل ما تؤثر قوى الشر من الحسد فى المحسود، فكل شئ له مقابل، هو ضده، ثم إن التنويم المغناطيسى فى أسلوبه العلمى المعترف به فى كل جامعات العالم، وكل المحاكم العالمية هو دليل فى هذا الجانب غير مدفوع " راجع كتاب " سبيل السعادة " للمرحوم يوسف الدجوى، وكتاب " على أطلال المذهب المادى " للمرحوم محمد فريد وجدى، وقد قرر الشيخ ابن القيم فى كتابه " الروح " كثيراًَ من القوى والطاقات الإنسانية فى الإحياء والموتى، فارجع إليه.
وهذا، وإن كان يطلب المدد من شيخ متوفى، فهو يطلب من روحه " التى يعتقد أنها تحيا برزخيا، فى مقام القرب من الحق " أن تتوجه شفاعة إلى الله فى شأنه بما يهمه؛ فالأرواح فى عالمها تحيا حياة غير مقيدة بحدود زمان أو مكان، فالقيود والحدود نتيجة الحياة البشرية، وأما الأرواح، فهى من عالم الانطلاق، ولاشك أن هذا الجانب كله مزلق من اخطر المزالق، ولا يقوى على فهمه وضبطه إلا أولوا الألباب، ومن ثم وجب تبصير الناس، أو سد الذرائع.
وليس معنى هذا أنن أجيز الحالات الهستيرية التى نشاهدها فى كثير من التجمعات المنسوبة إلى التصوف، وإنما أردت أن أبين علة الموضوع وإسناده إلى أهل العلم. ولكل حق باطل يشبهه، وما يستوى الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور.

·?أما ما يحيط بالموالد من منكرات جعلتها مجالاً خصباً للمرتزقة والنصابين، فقد قررنا أن الموالد بوضعها الحالى فيها الشروع والممنوع، وقد أصبح الممنوع فيها غالباً على المشروع للأسف الشديد، فمثلاً: قراءة القرآن، ومجالس العبادة، وحلق العلم، وانتشار الصدقات، وما يكون بين الناس من التعارف، والتآلف، والتعاطف، ورواج الحكة التجارية، والتلاقى على الله بحسن النية وصفاء القلب، وفقره الاجتماعى المحبب شرعاً وطبعاً، كل ذلك " حركة فيها بركة " لا ينكرها عقل، ولا دين، والإسلام دين التجميع والتكتيل، ومعنا جماعات الصلوات، والجمع، والعيدين، فضلاً عن اعتبار الموالد نوعاً من الفرح بفضل الله ورحمته، فبذلك فليفرحوا.
·?ولكن بجوار هذا شر موبق: عبادة محرفة، وتجمعات منكرة، ولصوصية أراض، ولصوصية أموال، ومراتع فسوق، وبؤرات ميسر، ومستنقعات تخريف، وتحريف، وشعوذة، وتفاخر، وتكاثر بالاتباع والأموال، والمظاهر. وضياع أى ضياع للأموال والأوقات والأخلاق والطاعات!!
إن هذه الموالد يمكن أن تصبح أسواقاً للثقافة الربانية. ومنابر للدعوة الوطنية والإسلامية، ومناسبات للخير العام والخاص، لا يمكن أن تضارعها فه أى تجمعات مصنوعة، مهما استقطبت من المغريات، وليس هذا فى يد أحد سوى الحكومة أولاً، فيما لها من الإشراف عليه، ثم فى يد مشيخة الطرق الصوفية، فيما لها من الإشراف عليه إذا صح العزم، وصح الحزم، على التغيير ن وطرحت المجاملات، وصدقت المواجهات.
أما والحال على هذا المنوال، فخسارة ووبال. وليس بعد الحق إلا الضلال.
أن الكلام عن الموالد فى جوانبها المختلفة تاريخياً وشرعياً، كلام طويل، وتستطيع أن ترجعه إلى بعضه فى بعض نشرات العشيرة ومجلتها، وفما قدمناه هنا آنفاً كافية.

***
السؤال الثانى عشر
ما حكم المواكب الصوفية؟
وما يكون فيها من الرقص؟ والدفوف؟ والصاجات؟ والأعلام؟ والأزياء الشاذة؟ والأوشحة؟ والعمائم الملونة؟
الجواب:
أما الطبل. والزمر. والرقص. وما يليه من الدفوف والصاجات، فقد أوضحنا - فيما قدمنا - حكم تحريمه باتفاق كعبادة؛ فهو لهو وباطل، وعبث ليس من الدين، ولا هو شأن الرجال " راجع ما قررناه آنفاً "
أما نفس المواكب: فقد كان أول موكب انعقد فى الإسلام يوم إذن الله بإعلان هذا الدين الخاتم، فخرج المسلمون فى صفين على رأس أحدهما: عمر بن الخطاب، وعلى رأس الآخر: حمزة بن عبد المطلب. وأخترق هذا الموكب شعاع مكة وثنياتها، يعلن بالتهليل والتكبير.
ثم جاءت مواكب المجموعات فى المدينة تعلن بالتكبير ليالى الأعياد والجماعات، التى تعلن بالتلبية فى الحج. ثم جاءت السرايا والبعوث، تأخذ وجهتها فى الدعوة إلى الله، كلما علوا شرفاً، أو هبطوا سهلاً، هللوا وكبروا، فكان هذا جميعاً أصل " المسيرات " والمواكب الصوفية السليمة.
أما الأعلام: فقد وجدت فى مسيرات الجيوش فى الصدر الأول، حتى إذا غزا لويس التاسع دياط، ودع الإمام الصوفى العظيم " الشيخ أبو الحسن الشاذلى " الناس فى الجهاد، بعد أن كف بصره. ودقت طبول الحرب بين يديه، وسار إلى موكبه أئمة الدين فى عصره، ومنهم سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام، وإمام المحدثين الشيخ زكى الدين المنذرى " صاحب الترغيب والترهيب "، ومكين الدين، وابن دقيق العيد، ورجاله من الصعيد إمام علماء الصول، وغيرهم من الخاصة، فضلاً عن الجماهير الهائلة.
وكان قد آثار خروج أبى الحسن (وهو مكفوف) حماس الناس وغيرتهم، فتابعه الآلاف يخرجون إلى كفاح الفرنسيس بأموالهم وأنفسهم، وقد اتخذت كل بلدة أو اسرة راية لها، تعرف بها، ويتجمع تحتها رجالها، حتى إذا نصر الله المسلمين، وأسر " لويس ورجاله "، وحبس فى دار ابن لقمان (الصوفى) بالمنصورة " لا زالت دار ابن لقمان موجودة فى المنصورة، وقد حولت إلى متحف معروف ".

ثم ورث بعض المتصوفة هذه الأعلام من أسرهم، وأقاربهم، وبلادهم، وإتخذها شعاراً. وحولها من حقيقة إلى تمثيل، وفلسوفها، فأدخلوا إشارة فى مجال مجاهدة النفوس، ولست أرى هذا الرأى ولا آسيغه، وخصوصاً بعد هبوط مستواه إلى ما ترى فى المدن والقرى ومن الناس.
·أما الأزياء الشاذة: فمدسوسة على أهل الله. ولم يعرف ولى الله كان له زى غير مألوف: فهى أثواب شهرة. " ومن لبس ثوب شهرة شهر الله به ". كما جاء فى الحديث الشريف " وفى حديث آخر {من لبس ثوب شهرة ألسه الله يوم القيامة ثوباً مثله، ثم يلهب فيه النار} رواه أبو داود، وابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه.
وأذاع الشياطين أن رسول الله - رضي الله عنهم - قد قتل، تخذيلاً لجماعة المسلمين، فلبس رسول الله - رضي الله عنهم - لفتاً للأنظار، وتكذيباً لدعوى المشركين، وإذن فقد لبسها لسبب معين، فى وقت معين. كما قرره أهل العلم. ثم لبسها (الشيعية) حزناً على استشهاد الحسين. كما لبسها العباسيون لأمر ما.
أما القول بان: الصفراء كانت علامة الملائكة يوم بدر، فلا دليل من العلم فيه.
وأكثر ما روى عن رسول الله - رضي الله عنهم -: إنما عمامته بيضاء كالغمامة، وكل ما جاء فى ألوان العمائم، فحديث واه شديد الضعف، أو حديث موضوع، وكلاهما لا يؤخذ به. وخصوصاً من الصوفية: فإنهم يجعلون خلاف الأولى، فى رتبة الحرام.
غير أنه ثبت أن الصحابى الجليل (أبا داجانة) كانت به عصابة حمراء، سماها (عصابة الموت) كان يلبسها إذا غامر فى صفوف الأعداء. فسئل فقال: حتى يعرفنى بها المسلمون، إذا شرفنى الله بالشهادة، فقد لبسها لسبب غير الشهرة والترفع والزهو على خلق الله، وقد كره رسول الله - رضي الله عنهم - الثوب الأحمر غير المخطط.

أما العمامة الخضراء فقد احدثها السلطان (شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون) أيام حكم المماليك. وخص بها آل البيت لبعض الأسباب، كما نقله العدوى فى (مشارق الأنوار) ، والشبلنجى فى (نور الأبصار) ، على ان للعلماء فيها رآياً مضاداً.
فإذا لبس الناس عمائمهم الملونة على أنها " عادة " فلعله لا يكون بها بأس.
أما إذا لبوسها تعبدأ، أو تمذهباً، فلن يكون معهم كتاب ولا سنة ثابتة؛ لأنها أما أن تكون تعصباً للمذهب والنبى - رضي الله عنهم - يقول: " ليس منا من دعا إلى عصبية " " ومن نصوص الحديث: قوله - رضي الله عنهم -: " ليس من من دعا إلى عصبية، وليس من مات على عصبية ". رواه أبو داود.
وإما أن تكون تزكية للنفس، وإعلاناً عن الشرف: والله يقول: {لا تزكوا أنفسكم} وإما أن تكون تعبداً. وإنما يعبد الله بما شرع.
وإما أن تكون تبركاً، ولا تكون البركة إلا فيما أذن فيه الله ورسوله: {ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون} فليكن إذن لبسها على سبيل العادة، خروجاً من الحرج، لمن يشاء، إذا ضمن ألا يجره لبسها إلى الرياء والتعالى والسمعة وغضب الله ورسوله.

***
السؤال الثالث عشر
ما حكم الاعتقاد فى قدرة بعض الاشياخ على الاطلاع على الغيب؟
وقد نفى القرآن عن الرسول - رضي الله عنهم - نفسه علمه بالغيب؟
الجواب:
هذا الباب مما لاينبغى فيه التعميم المبهم، فأن الغيب نوعان:
1. غيب حقيقى.
2. وغيب مجازى.
فالغيب الحقيقى: ما كان فى كنون العلم الإلهى، لا يحيط به إلا الله وحده.
أما الغيب المجازى: فما قد كشف الله عنه لمن شاء من خلقه، فهو العلم الذى تنزل به الملائكة والروح بإذن ربهم من كل أمر، وبخاصة حين - يفرق - فى ليلة القدر - كل أمر حكيم - (ومن معانى الفرق: الكشف، والإظهار، والبيان) .
ومما يدخل فى الغيب المجازى: ما يكون فى الأحداث الكونية التى تقع فى منطقة ما، فيراها من هم حولها ن ولا يراها ولا يعرفها الآخرون.

فالغيب الحقيقى: لله وحده {وعند مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} " سورة: الانعام، الآية: 59 ".
وقد يتفضل الله على بعض رسله فيحيطهم علماً بما يشاء من علمه؛ تأييداً لهم، وتعجيزاً لخصمهم {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد، إلا من ارتضى من رسول} " سورة الجن، الاية: 27 "، كما كان عيسى - رضي الله عنهم - ينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم " راجع الآية رقم 49 من سورة: آل عمران.
وكما حدثنا رسول الله - رضي الله عنهم - فى أعلام نبوته - عن وقائع واحداث جاءت فى حياته وبعد مماته، كما حدث بها بكل تحديد.
وهناك نفر من أهل الله - ولله آهلون من عباده، كما صح فى الحديث الكريم " الذى رواه الائمة: أحمد والنسائى، وابن ماجه، والحاكم عن سيدنا أنس رضى الله عنه " إن لله آهلين من الناس ": قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: آهل القرآن هم أهل الله وخاصته ".
ومعنى كل هذا: أن الله تعالى يتعطف على بعض الخواص من عباده بما يشاء من بحر علمه، فلا أحد يستطيع أن يحيط بشئ من علمه إلا إن يشاء الله! وهو قوله تعالى - على لسان نبيه - رضي الله عنهم -: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسنى السوء} " سورة الأعراف، الآية: 188. أى فلا أعلم إلا ما علمنى ربى، وما كشف عنه لى، ومن هذا الوجه أيضاَ قول تعالى: {وعلمناه من لدناً علماً) وقوله على لسان يوسف - رضي الله عنهم - فى تأويله الرؤيا {ذلكما مما علمنى ربى} " سورة يوسف - رضي الله عنهم -، الآية 37 "، وقوله تعالى: {وعلمك ما لم تكن تعلم} " سورة النساء، الآية: 113. ..... الخ.
كل هذا فى الغيب الحقيقى.
أما المجازى: وهو ما خرج من نطاق المكنون الربانى، فلا يتمنع أن تكون هناك وسائل للإحاطة به.
وقد فصل الإمام الآلوسى هذا الجانب تفصيلاً مفيداً حاسماً.
وقد يكون من هذه الوسائل: صفاء النفوس بطول ملازمة العبادة والاستغراق، وعدم الانشغال بغير الله - شأن أولياء الله الصالحين.

وقد يكون من هذه الوسائل ما هو آلى فلسفى، كالذى نراه فى فقراء الهنود.
وقد يكون من هذه الوسائل استخدام الشياطين، كما جاء فى الصحيح: " إن الشياطين يذهبون فى العنان فيخطفون الكلمة من الملك، فيقرونها فى آذان الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة " وروى البخارى أن الملائكة تنزل فى العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قضى فى السماء - فيسترق الشيطان السمع فيسمعه، فيوجهه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم " راجع الزواجر لابن حجر ".
وقد يكون من هذه الوسائل تطوع بعض صالحى الجن، بما لا بأس به مع بعض الصالحين من الإنس. وقد يكون بأسباب أخرى كثيرة جداً - فالأمر متشابه متشعب دقيق، لا تحكمه العواطف المنفعلة.
وبين أيدينا من التجارب الواقعية ما يغطى كل هذه الأنواع وغيرها، مما لم نشر إليه، وهو كثير.
وهذه الأصول كلها يجب أن يستنبطها من يتصدى للحكم على الغيب؛ فإن فتنة تعميم الأحكام، والتهويل والإيهام، كثيراً ما تخرج بطرفى القضية عن المنهج العلمى، او العلم المنهجى، فلا يتحقق إنصاف، ولا ينصف تحقيق.

***
السؤال الرابع عشر
ادعاء العصمة للأشياخ؟
الجواب:
العصمة للأنبياء وحدهم، أما غيرهم، فلو صحت لهم العصمة لكانوا أنبياء، ولا نبوة بعد سيدنا المصطفى - رضي الله عنهم -، ولم يقل بالعصمة لبشر بعد النبى إلا فى (الشيعة) الذين أعطوا ائمتهم هذا الحق بأدلة قبلوها هم، وليس فى الصوفية الراشدين من يقول هذا القول فى شيخ له، " ولاعبرة بالمتصوفة ولا المستصوفة ".
لكنهم نقلوا عن أبى الحسن الشاذلى قوله: " إن الله يتفضل على وليه " بالحفظ " كما يتفضل على " نبيه " والفرق بين الحفظ والعصمة، فسيح الأبعاد.
وحسبك أن العصمة هبة ومنحة، والحفظ كسب وأثر للاجتهاد والاحتياط والورع {فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين} . وقد قررنا أن المتطرفين والغلاة موجودون فى كل مذهب ودين، وبغيهم على أنفسهم، لا على المذهب، ولا على الدين.

كما قررنا أن الغلاة وجدوا فى عهد رسول الله - رضي الله عنهم -، فردهم وأمرهم بالتشبه به.
***
السؤال الخامس عشر:
(س) ما حكم توارث المشيخة فى أبناء الأسرة الواحدة؟
الجواب:
إذا وجد فى الأسرة من هو أهل لحمل عبء الدعوة، فلا شك أن أحق وأولى من كل الوجوه، وفى القرآن أن الله فضل آل إبراهيم وآل عمران على العالمين {ذرية بعضها من بعض} " سورة آل عمران، الآية: 34 " ومن ثم كان سيدنا إبراهيم أباً لجميع الانبياء، أى أن الانبياء جميعاً كانوا من آسرة واحدة، فلا اعتراض من جهة الشرع أو العقل على ذلك، مادام يحمل الأمانة من هو أهل لها، وقد ورث سليمان داود، واستورث موسى آخاه هارون، ودعا ذكريا ريه: {هب لى من لدنك ولياً. يرثنى ويرث من يعقوب} " سورة مريم (عليها السلام) ، الآية: 5، 6.
وفى الصحيح يقول - رضي الله عنهم -: " من كنت مولاه فعلى مولاه " رواه الإمامان: أحمد، وابن ماجه.
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}
أما إذا فقط شرط الصلاحية والكفاية، كان ذلك إقطاعاً بشراياً، ولا يعرفه دين الله، ولا يقبله نظام الانضباط الاجتماعى: {فإذا نفخ فى الصور فلا انساب بينهم يومئذ، ولا يتساءلون} ثم نذكر هنا نوحاً وابنه، وفرعون وامرأته.

***
السؤال السادس عشر
(س) تعيين ولى الله بالاسم؟ مع أن الولاية سر بين العبد وربه؟
الجواب:
سبق أن قررنا أن للولاية مواصفات، وعلامات، فمن تحققت فيه هذه العلامات، فهو ولى الله، بالنص القرآنى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون} " سورة الأعراف، الآية: 196.
وفى الاية {وهو يتولى الصالحين} " سورة الأعراف، الآية 196 ".

فإذا تحصلت الولاية - وللإيمان والتقوى والصلاحية وإشارات وعلائم، ولها روائح وملامح معروفة بين الناس. فإذا ما تحققت - أطلق الله ألسنة خلقه بحسن الذكر، وطيب السمعة، وإفاضة البركة، وفى الحديث المشهور: " إن الله اذا أحب عبداً نادى جبريل إنى أحب فلاناً فأحبه، ثم يكتب له القبول فى الأرض والسماء " " رواه البخارى ومسلم، عن أبى هريرة رضى الله عنه ورواه الترمذى عنه أيضاً ".، فالولاية وظيفة إلهية فى الأصل، فإذا تسنى أن يعرف الناس صاحبها، واطلقوا عليه بمقتضى وظيفته، فلا أظن أن بذلك بأساً، على أن من أولياء الله من هو مستور مغمور، على قدم العبد الصالح صاحب موسى عند مجمع البحرين، والعبد الصالح أويس القرنى؛ فأولياء الله نماذج للإنسانية الكاملة؛ لأنهم الممثلون الشخصيون للحضرة النبوية فيما ندبهم الله إليه.
ويجب أن يكون مفهوماً: أن الولاية شئ، والبلاهة شئ آخر
فمن شروط الولاية: تمام العقل، الفقه بدين الله.
أما الأبله: فلا نعتقده ولا ننتقده.
أما إطلاق الولى على من ميز نفسه بملبس خاص، ووضع خاص، وأسلوب حياة خاصة، ولم يتحقق فيه أوصاف الايات: فطوى الناس تحت لواء الشعوذة والتهريج، والدعوى، واختلاق الكرامات، والخوارق، فذلك ولى الشيطان وحزيه، فلا يفلح حيث أتى، وإن اجتمع عليه الثقلان، فإنما هو حينئذ من طلائع المسيخ الدجال، وكثير ما هم، وكثير أتباعهم.
ثم تأمل: هل أحد أكثر اتباعاً من ابليس؟
فكثرة الاتباع لا تدل على حقيقة الولاية، بل قد تكون نوعاً من الفتنة والابتلاء الالهى.

***
السؤال السابع عشر
(س) ما هو القول فى شفاعة الأولياء لاتباعهم؟ وحضورهم عند سؤالهم؟
الجواب:
شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض يوم القيامة آمر لا خلاف عليه بين المسلمين، وإذا ثبت لمجرد الإخوة فى الإسلام، فلعلها تكون أثبت إذا اجتمع مع الأخوة فى الإسلام أخوة أخص منها فى الله، فلا يستبعد أبداً أن يشفع مؤمن فى مؤمن باذن الله {من ذا الذى يشفع عنده إلا بأذنه} " آية الكرسى ".
لكن من غير المقبول أن يشيع بين بعض الطوائف أن شيخهم يحضرهم عند السؤال فى القبر، وقد دسوا مثل هذا الهراء فى تاريخ (أبى الحسن الشاذلى) وهو منه براء، كما دسوه فى تاريخ بعض ائمة الصوفية الآخرين، وهو مخالف للعقل، والتاريخ الصحيح، والنقل جميعاً.
ولقد كان رسول الله - رضي الله عنهم - أولى بذلك مع أصحابه.
سألت أحدهم: لو أن عشرة مثلاً من أتباع الشيخ فى عدة بلاد أو دول متباعدة، أو حتى فى بلدة واحدة، وقد ماتوا جميعاً فى وقت واحد، وهم يسألون فى وقت واحد، فمع من يكون الشيخ يا ترى؟
أم أن الملائكة تنتظر حضور الشيخ حتى يفرغ من وجوده مع الآخرين؟؟ (فعبس ويسر. ثم أدبر واستكبر) .
ثم ما هو الدليل من كتاب الله وسنة مصطفاه - رضي الله عنهم -؟
لا دليل. ولا استئناس، ولا نظر، ولا استصحاب بالمرة.
وإن من علمائنا من يرى فى تصديق ذلك مزلقاً إلى الوثنية.
ولعل من أشد ما يتألم له المرء أن يأخذ بعض الصالحين هذه القضايا الدخيلة على التصوف بحسن النية، ويرددوها على أنها حقائق، لأنها وجدت مطبوعة فى بعض الكتب، وقد دسها من دسها على الشيوخ بلؤم وخبث نية.
إن بعض الكتب المطبوع تقول: (إن الله ثالث ثلاثة) فهل نأخذ بهذا الشرك، لأنه مطبوع فى كتاب؟؟؟!
فاعتبروا ياأولى الألباب.

***
السؤال الثامن عشر
(س) لماذا الاهتمام بصناديق النذور بحيث يندر أن نجد ضريحاً كبيراً ليس به صندوق نذور؟
الجواب:
النذر فى ذاته مشروع، وإن كان لا يرد قضاء

فالله يقول {وليوفوا نذورهم} ومدح قوماً فقال: {يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً} " سورة الإنسان، الآية: 7، ويقول {وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه} " سورة سبأ، الآية: 39، وقال - رضي الله عنهم -: " من نذر ان يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه " رواه الإمام أحمد والبخارى والأربعة وأبو داود، والنسائى وابن ماجه.
والنذر أصلاً لله (ومن نذر لغير الله فقد أشرك) يعنى عمل عمل أهل الشرك، وإن لم يخرج من الملة، فإذا اتضح هذا التأصيل، كان لا بأس بأن تجمع النذور بطريقة واعية، لتصرف على أهلها، وعلى وجوه الخير، التى تعود على المسلمين بالأهدى والأجدى، وتود على من كان سبباً فيها وعلى فاعلها بالاجر والمثوبة.
(س) لكل هل أسلوب جمع النذور وتحصيلها، وصرفها الآن يتناسق مع المقصود منها؟
الجواب:
هذا تسأل عنه الدولة، فلوائح صناديق البذور تكاد تحصر حصيلتها فى كبار موظفى المساجد، وأعضاء لجان الحصر، إلا ما عسى أن يزيد من مقررات أولئك جميعاً، فهو يعود إلى وزارة الاوقاف، وليس كذلك مراد الناذر، ولامراد الشارع، ولامراد رجل الشارع، بل يتعين وضع النذر فى موضعه الصحيح.
وعندما يكون الناذر جاهلاً، فيقول مثلاً: هذا النذر للسيد البدوى، او السيدة زينب، أو غيرهما، فعلينا أن نعلمه أن يقول: " النذر لله، وثوابه البدوى أو السيدة زينب، أو نحو ذلك، ولا نرميه بكفر ولا شرك؛ فمراده صحيح، وتعبيره خطأ.
ولنتذكر أن سيدنا (سعدا) رضى الله عنه عندما حفر بئره المعروفة، قال (هذه لأم سعد) ولم ينكر عليه رسول الله - رضي الله عنهم - ولا الصحابة؛ لصحة قصده.

وانتظام هذا التعبير مع علوم اللغة العربية سليم، فهو فى اللغة على حذف مضاف تقديره (هذه لرب أم سعد) ، فالقائل (هذا للسيد البدوى) أو للسيدة، أو للحسين - يريد أنه (نزر لرب السيد، أو السيدة أو الحسين) وإن لم ينطق بلسانه، كما حدث تماماً من سعد بن أبى وقاص، وإنما الأعمال بالنيات، لا بالكلمات.
كلمة اخيرة: لقد اتعبتنى يا كمال يا ولدى (الاستاذ / كمال فرغلى - الصحافى المعروف بجريدة التعاون) - وطوفت بى هنا وهناك، وقد طاوعتك رجاء تصحيح بعض المفاهيم لوجه لله. وقد أجبت (بغاية الاختصار) على ما سألت من أسئلة، بعضها يحتاج إلى سعة كبرى فى الوقت والبيان، والدليل والتعليل، وقد أكون مصيباً أو مخطئاً فى حكم أو فى أحكام وما أبرئ نفسى، ولا أزكى على الله أحداً، وهذا شأن البشرية {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} " سورة النساء، الآية: 82 " - وأنا اسجل رأيى، ولا أحمل أحداً عليه، كما لا اقبل أن يحملنى احد على رأيه؛ فهذه فروع اجتهادية، تختلف فها الأنظار والأفكار. وستبقى كذلك إلى يوم القيامة، وليس على الأرض من يسجل قولاً وهو يظن أن يدخل النار به
فأسأل الله أن يجعل لى ما كسبت صواباً، وأن يغفر لى ما اكتسبت من خطأ هو قطعاً غير مقصود، وهو الغفور والودود.
وبهذا أكون قد أجبت على أهم ما سألت، مما ينفع الناس ويمكث فى الأرض إن شاء الله، ومنه يظهر بكل الوضوح: أنه ليس هناك خلاف بين الصوفية وبين غيرهم من أهل السنة، إلا فى بعض صور الفهم، وتحليل المضامين التى جعلت الصوفة يهتمون بالقلوب والتربية والأخلاق، والاعتصام بمقامات التسامى والربانية، فالتصوف مذهب إسلامى أصيل، من مذاهب أهل السنة التى لابد منها للحياة الصحيحة.

وإذا كان الصوفية يدعون إلى الإخلاق وبناء داخل الانسان بعد أن تهدم وتحطم، فهم إنما يعملون غابة ما يجب على الإنسان لاستعمار الرض والاستخلاف عليها، وتنقية الحضارة من أوزارها وأوضارها، واستقرار الأمة بأفرادها على ما لو يكن لهلكت، وها نحن قد جربنا، وضرب الامثال، وليس بعد الحق إلا الضلال، ونستغفر الله، ونتوب إليه.
***
 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم