حقيقة موقف ابن تيمية من الأشاعرة
موقفه من التأويل :
قبل أن نخوض بهذا البحث علينا أن نأخذ فكرة عن التفويض والتأويل كمعنى واصطلاح..
التفويض: مأخوذ من قولهم فوض إليه الأمر، أي رده إليه..
والمعنى الاصطلاحي فيما يخص الصفات الخبرية، لا يخرج عن المعنى اللغوي، فهو اصطلاحا: رد العلم بهذه المتشابهات إلى الله تعالى وعدم الخوض في معناها وذلك بعد تنزيه الله تعالى عن ظواهرها غير الواردة بالأصول الثابتة..
والتأويل: أصله من الأَوْلِ وهوالرجوع، أي إرجاع الشيء لأصله..
وهواصطلاحا ً: صرف اللفظ عن الظاهر بقرينة تقتضي ذلك، وهذان المذهبان كما أسلفنا هماالمذهبان المعتبران المأثوران عن أهل السنة والجماعة "الأشاعرة والماتريدية" في أبواب المتشابهات، ولا اعتبار لمن جنح إلى التعطيل أو التشبيه من المذاهب الأخرى التي رفضتها الأمةولفظتها..
نهج ابن تيمية مع الصفات الخبرية :
كان ابن تيمية رحمه الله تعالى، مع مبدأ التفويض وذلك من باب المبعث السلوكي الإيماني، من دافع الورع لأن ذلك أسلم للقلب وأقرب للتقوى، وأيسر على مسالك العموم..
وهذا شائع ومشهور عند التيمية عموما..
وقد دعم تقديم التفويض على التأويل حجة الإسلام "أبو حامد الغزالي" رحمه الله تعالى..
حيث كان الإمام الغزالي يحذر من خوض العوام بالتأويل، فكان يرى أن خيارهم الأمثل هو التفويض، والتأويل حكر على أهل التخصص من أهل العلم كعلماء ومتعلمين، [انظر في "إلجام العوام عن علم الكلام" للغزالي [ص: 320] ..] ..
ومع ذلك كان ابن تيمية، مؤيد للتأويل الأصولي دون العمل به، أي لا ينكر على من يعمل به؟؟ ! ..
وهو كان متأثر بشكل أو بآخر وبطريقة ما، بمدرسة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى..
كان التأويل عند الإمام الغزالي مشروط بالدليل أو البيان القرآني أو شرح السنة، [انظر في "المستصفى في علم الأصول" [ص: 197] ..] ..
حيث كان الإمام الغزالي يربط التأويل بالدليل الشارح {القول الشارح} ، الموصل إلى المعاني من جهة ولتقوية الحجة بالتصديق النقلي من جهة أخرى، وهو شرط أساسي في الحجة الموصلة للتصديق، [انظر في "معيار العلم في المنطق" للغزالي [ص: 36] ..] ..
وقد تأثر بذلك النهج ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول رحمه الله تعالى، في النص القرآني أو الحديث القابل للتأويل: "هذا نوع تأويل والتأويل يحتاج إلى دليل، والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر"، [انظر في "الإكليل في المتشابه والتأويل" لابن تيمية [ص: 27] ..] ..
ومرد قبول ذلك كله عند ابن تيمية قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59] ..
لذلك كان يرى رحمه الله أن التأويل الأصولي وفق فهمه للآية أنه ما وافق محكم القرآن وشرح القرآن وهو موثق السنة الشريفة، أي وفق القاعدة الأشعرية عند الأصوليين في الصفات الخبرية والتي تنص على "درء شبهة الآيات المتشابهات القطعية الثبوت الظنية الدلالة، بردها إلى أصلها الثابت في الآيات المحكمات القطعية الدلالة القطعية الثبوت"..
ورغم أن ابن تيمية لم يصرح بعقيدته الأشعرية بالتفويض، بسبب انتماءه إلى المدرسة الحنبلية التي تنتسب إلى عقيدة التفويض الأشعري لأمامهم بالعقيدة والسنة "أحمد بن حنبل" رحمه الله تعالى..
ولكنه رغم ذلك أشار لذلك بالإشارة دون صريح العبارة كما بين في "المجموع" حيث قال: (وفرح المسلمون باتفاق الكلمة، وأظهرت ما ذكره ابن عساكر في مناقبه أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري) ، ورد في "مجمع الفتاوى" لابن تيمية [ج3/ص: 229] ..
إضافة لتصريحه شبه المباشر في رسالته أمام القضاة، في كتاب " نهاية الأرب في فنون الأدب " للإمام القاضي شهاب الدين النويري المعاين للحادثة والمتوفى سنة 733 هـ ط دار الكتب المصرية 1998م [ج32 / ص: 115 و116] ..
ومنه نفهم أن وجه الاعتراض عند شيخ الإسلام وتلاميذه وأتباعه، هو على التأويل الفلسفي الذي ينفي الصفات الخبرية بنفي ظاهرها بعدم ردها إلى الأصل المحكم، وهو تأويل القرآن بالقرآن أو علم البيان، وهو اعتراض مقبول عند أهل نهج الأشعري الأصولي..
ولكن مبرر قبوله عند الأشاعرة عموما أنه كان مقبول لحد ما في حالة ضرورات التحاور من المبدعة المتكلمين برد شبهتهم بأسلوب اعتاده أفهامهم..
ملحق إسناد:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، حَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي ثَلاثٌ: مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَرِجَالٌ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَزَلَّةُ عَالِمٍ "، ثُمَّ قَالَ: " أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ، إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، فَاشْكُرُوا اللَّهَ، وَخُذُوا مَا تَعْرِفُونَ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَمَا شَكَكْتُمْ فِيهِ فَرَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزّ، وَانْتَظِرُوا بِالْعَالِمِ فَيْئَتَهُ، وَلا تَلَقَّفُوا عَلَيْهِ عَثْرَةً) ، رواه أبو داود في "المراسيل" [ر:475] ، ورواه الطبري في "جامع البيان" [ج20/ص: 510/ر:28327] ، ورواه الأزدي في "جامعه" [ج30/ص: 200/ر:636] ، وخلاصة حكمه: مرسل متصل الإسناد، رجاله ثقات..
ويؤوله واقعه، وصحة معناه ودلالته، وثبات متنه: (... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59] ..
وهو ما يرقي درجته إلى [الصحيح التام] ..
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: (اعْمَلُوا بِالْقُرْآنِ، وَأَحِلُّوا حَلالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَاقْتَدُوا بِهِ، وَلا تَكْفُرُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ وَمَا تَشَابَهَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ فَرَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْ بَعْدِي كَيْمَا يُخْبِرُوكُمْ) ، رواه ابن حجر العسقلاني في "المطالب العالية" [ر:3600] ، والبيهقي في "سننه الكبرى" [ج9/ص: 10/ر:18144] ، وفي "شعب الإيمان" [ر:2262] ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" [ج37/ص: 177/ر:14543] ، والبوصيري في "إتحاف المهرة" [ر:5712] ، وصححه الحاكم النيسابوري على شرط الشيخين في "المستدرك" [ج1/ص: 568/ر:2020] ، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ..
وروى الطبري في "المعجم الكبير" [ر:1413] ، عَنْ ثَوْبَانَ بن يجدد رضي الله عنه، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَ: (أَلا إِنَّ رَحَى الإِسْلامِ دَائِرَةٌ "، قَالَ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " اعْرِضُوا حَدِيثِي عَلَى الْكِتَابِ، فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا قُلْتُهُ) ، وهو حديث يصححه معناه ودلالته وصحة متنه وواقعه المعاصر..
موقف ابن تيمية من "الأشاعرة" كنهج عام:
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وإن كان في كلامهم [الأشاعرة] من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم) ، ورد في "نقض التأسيس" لابن تيمية [ج2/ص:87] ..
هذا الكلام يدل أن ابن تيمية كان موافق لكل ما جاء به الأشاعرة المتقدمين الأصوليين، ولا يخالف إلا ما جاء به المتأخرين منهم..
ومع ذلك فإنه رحمه الله كان يزكي ويثني على جميع السادة الأشاعرة ضمنيا وأمثلة ذلك:
أنه كان يقبل الأشاعرة عموما في ردهم عل مبتدعة الكلام ومثال ذلك قوله رحمه الله تعالى: (ثم إنه ما من هؤلاء [الأشاعرة] إلا من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة , وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم , وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه؛ فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل. وخيار الأمور أوسطها) ، ورد في "درء التعارض" لابن تيمية [ج2/ص: 102و103] ..
نسيج نهج ابن تيمية وموقفه من الإمام الأشعري:
إن من يدقق بطبيعة نهج ابن تيمية رحمه الله تعالى، يجده مركب من خليط فريد مشتق من نهج الإمام ابن كلاب وابن كرام وابن حنبل، فابن تيمية كان يحترم الإمام الأشعري ولكنه يغار منه ومن أسطورته عند أصحابه، في الوقت ذاته، ويريد أن يجعل من نفسه أسطورة مشابهة، وفشله في تحقيق ذلك منشأه، أن الإمام الأشعري رحمه الله تعالى كان مخلصا في هدفه، لغير محب للرياسة الدينية، لا يلتفت إلى نفسه بإعجاب، ولا يزدري أحد من أقرانه بالعلم ولا مبتغى له إلا إظهار الحق، دون أن يزكي نفسه أو يقدم على الله أحد، وكان يرجو آخرته ووجه الله وحده، تعويضا عن ضلال في العقيدة طال في كنف المعتزلة، بينما ابن تيمية انطلق بنهجه على أنه تبنى الحق وأصول الحق والحقيقة والنهج القويم المبني على القرآن والسنة الذي أسسه، الإمام ابن حنبل رحمه الله تعالى..
وخطأ ابن تيمية أنه أراد أن يجتهد ويضع بصمته بما استهلكه غيره تحقيقا وتوثيقا واتفاقا في كل الجوانب الأصولية والاجتهادية..
أراد أن يصنع لنفسه نهجا خاصا من تجارب الآخرين ولكن بأسلوبه بالاجتهاد بالرأي..
وهذا النوع من الاجتهاد لم يكن محبذ لأنه كان مبني على الطاقات الفكرية والذهنية البشرية القاصرة..
وليس على استنباط الفروع وربطها بأصولها المصدرية بالقياس، أو الاجتهاد بالفهم الصحيح للنصوص ألأساسية في القرآن والسنة أصولا..
وما أخرجه من هذه الأوهام ومن هواه كعالم محبته للإمارة العلمية، وتبعات ذلك من كبر على الغير من الأنداد، والعجب بمزايا الذات، والاغترار بما اكتسبه من المعارف والفهوم، وما حققه من منزلة علمية وعزوة تبعية ممن يشار لهم بالبنان وعلى رأسهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الذي كان أول المفتونين بالمدرسة التيمية..
كان ابن تيمية يعاني من اضطراب داخلي مبعثه شيئين الأول تقديره وإعجابه بعدد من أئمة السلف، ثانيا محاولته تقمص حالهم وهو ما كان يدعوه تارة إلى تقديمهم والثناء عليهم وتارة إلى نقدهم والإنقاص من قدرهم بغية تقديم نفسه عليهم غيرة منهم..
وبقي على هذا الحال إلى أن كانت المحنة عام 707 هـ، ودخوله السجن وخضوعه للمحاكمة التي أرته عجزه وحجمه الحقيقي فتحول من الالتفات لعجب النفس إلى الالتفات للحق وإنكار الذات..
وقد ورد إشارة لهذا التحول الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في "الدرر الكامنة" [ج1/ص: 148] ، بأن ابن تيمية رجع عن عقائده الفاسدة سنة 707 هجرية بعد محاكمته، وأقر بشذوذه العقائدي، عن ما اتفق عليه علماء عصره، وحبسه في آخر حياته كان بتهمة ملفقه فحواها أنه حرم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم..
ووفق تقديري والله العليم بالصواب، أن هذا الأمر لم يكن بهذا الشكل بل كان مع المعتقد الصوفي القائل أن التلقي من القلب الناطق المستنير من مشكاة النبوة، المتمثل بالخليفة المحمدي المهدي، ثم الأولياء الصالحين، والعلماء العاملين والفقهاء المجتهدين، أنفع من الاستفادة وأعم من قلب لا ينال الفضل منه إلا المنتخب من أهل التقوى والنقاء والارتقاء..
ولكن شعبية ابن تيمية رحمه الله وكثرة أنصاره ومؤيديه حرض عليه المنافسين من الأقران..
فكان قضاء الله أن هيئ له خلوة ليرتقي من مراتب الإيمان إلى درجات التقوى والدخول في مجالات الإحسان؟؟؟ ! ..
فقد كان حينها يقول رحمه الله تعالى: (ماذا يصنع أعدائي بي؟، إن سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة، إن إيماني في قلبي، وقلبي بيد ربي) ..
وفي ورواية أخرى كان يقول: (جنتي في صدري فما يفعل بي أعدائي إن سجني خلوة ونفيي سياحة وقتلي شهادة) ..
وهو الذي قال في قول مشابه لإمام علي كرم الله وجهه: (إن في القلب وحشة لا يملآها إلا الأنس بالله) ، وقد شهد ذلك في سجنه..
موقفه من الإمام الأشعري..
كان ابن تيمية يعتبر الإمام الأشعري رحمه الله هو نتاج جامع بين منهج الإمام ابن كلاب والإمام ابن حنبل رحمهما الله تعالى، حيث كان يقول: (وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة) ، ورد في "درء التعارض" [ج1/ص: 270] ..
وكان يقول أن الأشاعرة من مثبتي الصفات الخبرية فيقول: (ما الأشعري نفسه وأئمة أصحابه، فلم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية، وفي الرد على من يتأولها، كمن يقول: استوى بمعنى استولى. وهذا مذكور في كتبه كلها) ، ورد في "مجموع الفتاوى" [ج12/ص: 203] ..
أما تهمة نفي الصفات الخبرية التي يحاول التيمية المتأخرين "الوهابية"، فهي خاصة بالأشاعرة المتأخرين "الكلابية"، والذين عاد أكثرهم لنهج الأشعري المتقدم "الأصولي"..
وصدق شيخ الإمام الشافعي "وكيع بن الجراح" رحمه الله تعالى: (أهل العلم يكتبون مالهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا مالهم) ، رواه الدارقطني في "سننه" [ج1/ص: 26] ، بإسناد صحيح..
ثم عاد وقال منصفا الإمام الأشعري رحمه الله حيث يقول في نفس المصدر: (فمن قال: أن الأشعري كان ينفيها [الصفات الخبرية] ، فقد افترى عليه، ولكن هذا فعل طائفة من متأخري أصحابه، كأبي المعالي ونحوه فإن هؤلاء أدخلوا في مذهبه أشياء من أصول المعتزلة) ، ورد في "مجموع الفتاوى" [ج12/ص: 203] ..
كانت غايتي أنا العبد لله من هذا البحث هو محاولة تشكيل مقدمة لموضوع متكامل حول رجل من رجال العلم لقب بلقب تقي الدين وسمي شيخ الإسلام..
والهدف أو المحرض الرئيسي لذلك إظهار الحق والإنصاف الذي هو في هذا الزمان عزيز، ثم نصرة نهجي الذي أعلم عن تحقق دون تعصب أنه الصواب.
ولكني صدمت، فقد وجدت أن هذا الرجل وأقصد ابن تيمية رحمه الله تعالى، هناك طائفة بالغت بحبها له، وطائفة بالغت ببغضها له، وفئة مالت للإنصاف في حقه وإن قلت..
وهو ما يعني أن هذا العالم، هو واحد من ثلاثة:
1) إما أنه مثل من أمثلة التقوى والعدالة بالحق والصدق، ولكن دون ميثاق فإن رجحت ذلك عنه وكان غير ذلك أكون قد دافعت عن من ظلم نفسه وأكون قد ظلمت نفسي أيضا بنصرته..
2) الحالة الثانية أن يكون مثل علمي سيئا وصاحب فتنة ودعوة لتجزيء الأمة وتشتيت والتشكيك بما أجمعت عليه، بدافع إحراز الشهرة الذاتية، أو مدفوع من جهة مغرضة أو معادية للإسلام، ولكن لا توثيق قطعي بذلك، فإن نصرت هذه الحالة أكون قد ظلمته وظلمت نفسي بظلمه..
3) والحالة الثالثة القول بأنه كان له بداية سيئة كعالم، ثم أستوى أمره بعد محنة أصابته ولكن قد يكون ما حدث أنه بقي على طبيعته لأنه تعرض لمحن عدة وقد لا يكون ذلك، فلا توثيق بذلك وقد يكون مظلوم من البداية لأنه سار بعكس التيار، وهو ما يعني أن ابن تيمية لا يمكن الجزم بحالة يقينا بكل الأحوال..
إنتهى،،،
موقفه من التأويل :
قبل أن نخوض بهذا البحث علينا أن نأخذ فكرة عن التفويض والتأويل كمعنى واصطلاح..
التفويض: مأخوذ من قولهم فوض إليه الأمر، أي رده إليه..
والمعنى الاصطلاحي فيما يخص الصفات الخبرية، لا يخرج عن المعنى اللغوي، فهو اصطلاحا: رد العلم بهذه المتشابهات إلى الله تعالى وعدم الخوض في معناها وذلك بعد تنزيه الله تعالى عن ظواهرها غير الواردة بالأصول الثابتة..
والتأويل: أصله من الأَوْلِ وهوالرجوع، أي إرجاع الشيء لأصله..
وهواصطلاحا ً: صرف اللفظ عن الظاهر بقرينة تقتضي ذلك، وهذان المذهبان كما أسلفنا هماالمذهبان المعتبران المأثوران عن أهل السنة والجماعة "الأشاعرة والماتريدية" في أبواب المتشابهات، ولا اعتبار لمن جنح إلى التعطيل أو التشبيه من المذاهب الأخرى التي رفضتها الأمةولفظتها..
نهج ابن تيمية مع الصفات الخبرية :
كان ابن تيمية رحمه الله تعالى، مع مبدأ التفويض وذلك من باب المبعث السلوكي الإيماني، من دافع الورع لأن ذلك أسلم للقلب وأقرب للتقوى، وأيسر على مسالك العموم..
وهذا شائع ومشهور عند التيمية عموما..
وقد دعم تقديم التفويض على التأويل حجة الإسلام "أبو حامد الغزالي" رحمه الله تعالى..
حيث كان الإمام الغزالي يحذر من خوض العوام بالتأويل، فكان يرى أن خيارهم الأمثل هو التفويض، والتأويل حكر على أهل التخصص من أهل العلم كعلماء ومتعلمين، [انظر في "إلجام العوام عن علم الكلام" للغزالي [ص: 320] ..] ..
ومع ذلك كان ابن تيمية، مؤيد للتأويل الأصولي دون العمل به، أي لا ينكر على من يعمل به؟؟ ! ..
وهو كان متأثر بشكل أو بآخر وبطريقة ما، بمدرسة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى..
كان التأويل عند الإمام الغزالي مشروط بالدليل أو البيان القرآني أو شرح السنة، [انظر في "المستصفى في علم الأصول" [ص: 197] ..] ..
حيث كان الإمام الغزالي يربط التأويل بالدليل الشارح {القول الشارح} ، الموصل إلى المعاني من جهة ولتقوية الحجة بالتصديق النقلي من جهة أخرى، وهو شرط أساسي في الحجة الموصلة للتصديق، [انظر في "معيار العلم في المنطق" للغزالي [ص: 36] ..] ..
وقد تأثر بذلك النهج ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول رحمه الله تعالى، في النص القرآني أو الحديث القابل للتأويل: "هذا نوع تأويل والتأويل يحتاج إلى دليل، والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر"، [انظر في "الإكليل في المتشابه والتأويل" لابن تيمية [ص: 27] ..] ..
ومرد قبول ذلك كله عند ابن تيمية قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59] ..
لذلك كان يرى رحمه الله أن التأويل الأصولي وفق فهمه للآية أنه ما وافق محكم القرآن وشرح القرآن وهو موثق السنة الشريفة، أي وفق القاعدة الأشعرية عند الأصوليين في الصفات الخبرية والتي تنص على "درء شبهة الآيات المتشابهات القطعية الثبوت الظنية الدلالة، بردها إلى أصلها الثابت في الآيات المحكمات القطعية الدلالة القطعية الثبوت"..
ورغم أن ابن تيمية لم يصرح بعقيدته الأشعرية بالتفويض، بسبب انتماءه إلى المدرسة الحنبلية التي تنتسب إلى عقيدة التفويض الأشعري لأمامهم بالعقيدة والسنة "أحمد بن حنبل" رحمه الله تعالى..
ولكنه رغم ذلك أشار لذلك بالإشارة دون صريح العبارة كما بين في "المجموع" حيث قال: (وفرح المسلمون باتفاق الكلمة، وأظهرت ما ذكره ابن عساكر في مناقبه أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري) ، ورد في "مجمع الفتاوى" لابن تيمية [ج3/ص: 229] ..
إضافة لتصريحه شبه المباشر في رسالته أمام القضاة، في كتاب " نهاية الأرب في فنون الأدب " للإمام القاضي شهاب الدين النويري المعاين للحادثة والمتوفى سنة 733 هـ ط دار الكتب المصرية 1998م [ج32 / ص: 115 و116] ..
ومنه نفهم أن وجه الاعتراض عند شيخ الإسلام وتلاميذه وأتباعه، هو على التأويل الفلسفي الذي ينفي الصفات الخبرية بنفي ظاهرها بعدم ردها إلى الأصل المحكم، وهو تأويل القرآن بالقرآن أو علم البيان، وهو اعتراض مقبول عند أهل نهج الأشعري الأصولي..
ولكن مبرر قبوله عند الأشاعرة عموما أنه كان مقبول لحد ما في حالة ضرورات التحاور من المبدعة المتكلمين برد شبهتهم بأسلوب اعتاده أفهامهم..
ملحق إسناد:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، حَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي ثَلاثٌ: مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَرِجَالٌ يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَزَلَّةُ عَالِمٍ "، ثُمَّ قَالَ: " أَلا أُخْبِرُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ، إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، فَاشْكُرُوا اللَّهَ، وَخُذُوا مَا تَعْرِفُونَ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَمَا شَكَكْتُمْ فِيهِ فَرَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزّ، وَانْتَظِرُوا بِالْعَالِمِ فَيْئَتَهُ، وَلا تَلَقَّفُوا عَلَيْهِ عَثْرَةً) ، رواه أبو داود في "المراسيل" [ر:475] ، ورواه الطبري في "جامع البيان" [ج20/ص: 510/ر:28327] ، ورواه الأزدي في "جامعه" [ج30/ص: 200/ر:636] ، وخلاصة حكمه: مرسل متصل الإسناد، رجاله ثقات..
ويؤوله واقعه، وصحة معناه ودلالته، وثبات متنه: (... فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59] ..
وهو ما يرقي درجته إلى [الصحيح التام] ..
عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: (اعْمَلُوا بِالْقُرْآنِ، وَأَحِلُّوا حَلالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَاقْتَدُوا بِهِ، وَلا تَكْفُرُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ وَمَا تَشَابَهَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ فَرَدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْ بَعْدِي كَيْمَا يُخْبِرُوكُمْ) ، رواه ابن حجر العسقلاني في "المطالب العالية" [ر:3600] ، والبيهقي في "سننه الكبرى" [ج9/ص: 10/ر:18144] ، وفي "شعب الإيمان" [ر:2262] ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" [ج37/ص: 177/ر:14543] ، والبوصيري في "إتحاف المهرة" [ر:5712] ، وصححه الحاكم النيسابوري على شرط الشيخين في "المستدرك" [ج1/ص: 568/ر:2020] ، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ..
وروى الطبري في "المعجم الكبير" [ر:1413] ، عَنْ ثَوْبَانَ بن يجدد رضي الله عنه، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، قَالَ: (أَلا إِنَّ رَحَى الإِسْلامِ دَائِرَةٌ "، قَالَ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " اعْرِضُوا حَدِيثِي عَلَى الْكِتَابِ، فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ مِنِّي، وَأَنَا قُلْتُهُ) ، وهو حديث يصححه معناه ودلالته وصحة متنه وواقعه المعاصر..
موقف ابن تيمية من "الأشاعرة" كنهج عام:
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وإن كان في كلامهم [الأشاعرة] من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم) ، ورد في "نقض التأسيس" لابن تيمية [ج2/ص:87] ..
هذا الكلام يدل أن ابن تيمية كان موافق لكل ما جاء به الأشاعرة المتقدمين الأصوليين، ولا يخالف إلا ما جاء به المتأخرين منهم..
ومع ذلك فإنه رحمه الله كان يزكي ويثني على جميع السادة الأشاعرة ضمنيا وأمثلة ذلك:
أنه كان يقبل الأشاعرة عموما في ردهم عل مبتدعة الكلام ومثال ذلك قوله رحمه الله تعالى: (ثم إنه ما من هؤلاء [الأشاعرة] إلا من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة , وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم , وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه؛ فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل. وخيار الأمور أوسطها) ، ورد في "درء التعارض" لابن تيمية [ج2/ص: 102و103] ..
نسيج نهج ابن تيمية وموقفه من الإمام الأشعري:
إن من يدقق بطبيعة نهج ابن تيمية رحمه الله تعالى، يجده مركب من خليط فريد مشتق من نهج الإمام ابن كلاب وابن كرام وابن حنبل، فابن تيمية كان يحترم الإمام الأشعري ولكنه يغار منه ومن أسطورته عند أصحابه، في الوقت ذاته، ويريد أن يجعل من نفسه أسطورة مشابهة، وفشله في تحقيق ذلك منشأه، أن الإمام الأشعري رحمه الله تعالى كان مخلصا في هدفه، لغير محب للرياسة الدينية، لا يلتفت إلى نفسه بإعجاب، ولا يزدري أحد من أقرانه بالعلم ولا مبتغى له إلا إظهار الحق، دون أن يزكي نفسه أو يقدم على الله أحد، وكان يرجو آخرته ووجه الله وحده، تعويضا عن ضلال في العقيدة طال في كنف المعتزلة، بينما ابن تيمية انطلق بنهجه على أنه تبنى الحق وأصول الحق والحقيقة والنهج القويم المبني على القرآن والسنة الذي أسسه، الإمام ابن حنبل رحمه الله تعالى..
وخطأ ابن تيمية أنه أراد أن يجتهد ويضع بصمته بما استهلكه غيره تحقيقا وتوثيقا واتفاقا في كل الجوانب الأصولية والاجتهادية..
أراد أن يصنع لنفسه نهجا خاصا من تجارب الآخرين ولكن بأسلوبه بالاجتهاد بالرأي..
وهذا النوع من الاجتهاد لم يكن محبذ لأنه كان مبني على الطاقات الفكرية والذهنية البشرية القاصرة..
وليس على استنباط الفروع وربطها بأصولها المصدرية بالقياس، أو الاجتهاد بالفهم الصحيح للنصوص ألأساسية في القرآن والسنة أصولا..
وما أخرجه من هذه الأوهام ومن هواه كعالم محبته للإمارة العلمية، وتبعات ذلك من كبر على الغير من الأنداد، والعجب بمزايا الذات، والاغترار بما اكتسبه من المعارف والفهوم، وما حققه من منزلة علمية وعزوة تبعية ممن يشار لهم بالبنان وعلى رأسهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الذي كان أول المفتونين بالمدرسة التيمية..
كان ابن تيمية يعاني من اضطراب داخلي مبعثه شيئين الأول تقديره وإعجابه بعدد من أئمة السلف، ثانيا محاولته تقمص حالهم وهو ما كان يدعوه تارة إلى تقديمهم والثناء عليهم وتارة إلى نقدهم والإنقاص من قدرهم بغية تقديم نفسه عليهم غيرة منهم..
وبقي على هذا الحال إلى أن كانت المحنة عام 707 هـ، ودخوله السجن وخضوعه للمحاكمة التي أرته عجزه وحجمه الحقيقي فتحول من الالتفات لعجب النفس إلى الالتفات للحق وإنكار الذات..
وقد ورد إشارة لهذا التحول الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في "الدرر الكامنة" [ج1/ص: 148] ، بأن ابن تيمية رجع عن عقائده الفاسدة سنة 707 هجرية بعد محاكمته، وأقر بشذوذه العقائدي، عن ما اتفق عليه علماء عصره، وحبسه في آخر حياته كان بتهمة ملفقه فحواها أنه حرم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم..
ووفق تقديري والله العليم بالصواب، أن هذا الأمر لم يكن بهذا الشكل بل كان مع المعتقد الصوفي القائل أن التلقي من القلب الناطق المستنير من مشكاة النبوة، المتمثل بالخليفة المحمدي المهدي، ثم الأولياء الصالحين، والعلماء العاملين والفقهاء المجتهدين، أنفع من الاستفادة وأعم من قلب لا ينال الفضل منه إلا المنتخب من أهل التقوى والنقاء والارتقاء..
ولكن شعبية ابن تيمية رحمه الله وكثرة أنصاره ومؤيديه حرض عليه المنافسين من الأقران..
فكان قضاء الله أن هيئ له خلوة ليرتقي من مراتب الإيمان إلى درجات التقوى والدخول في مجالات الإحسان؟؟؟ ! ..
فقد كان حينها يقول رحمه الله تعالى: (ماذا يصنع أعدائي بي؟، إن سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة، إن إيماني في قلبي، وقلبي بيد ربي) ..
وفي ورواية أخرى كان يقول: (جنتي في صدري فما يفعل بي أعدائي إن سجني خلوة ونفيي سياحة وقتلي شهادة) ..
وهو الذي قال في قول مشابه لإمام علي كرم الله وجهه: (إن في القلب وحشة لا يملآها إلا الأنس بالله) ، وقد شهد ذلك في سجنه..
موقفه من الإمام الأشعري..
كان ابن تيمية يعتبر الإمام الأشعري رحمه الله هو نتاج جامع بين منهج الإمام ابن كلاب والإمام ابن حنبل رحمهما الله تعالى، حيث كان يقول: (وكان الأشعري أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة) ، ورد في "درء التعارض" [ج1/ص: 270] ..
وكان يقول أن الأشاعرة من مثبتي الصفات الخبرية فيقول: (ما الأشعري نفسه وأئمة أصحابه، فلم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية، وفي الرد على من يتأولها، كمن يقول: استوى بمعنى استولى. وهذا مذكور في كتبه كلها) ، ورد في "مجموع الفتاوى" [ج12/ص: 203] ..
أما تهمة نفي الصفات الخبرية التي يحاول التيمية المتأخرين "الوهابية"، فهي خاصة بالأشاعرة المتأخرين "الكلابية"، والذين عاد أكثرهم لنهج الأشعري المتقدم "الأصولي"..
وصدق شيخ الإمام الشافعي "وكيع بن الجراح" رحمه الله تعالى: (أهل العلم يكتبون مالهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا مالهم) ، رواه الدارقطني في "سننه" [ج1/ص: 26] ، بإسناد صحيح..
ثم عاد وقال منصفا الإمام الأشعري رحمه الله حيث يقول في نفس المصدر: (فمن قال: أن الأشعري كان ينفيها [الصفات الخبرية] ، فقد افترى عليه، ولكن هذا فعل طائفة من متأخري أصحابه، كأبي المعالي ونحوه فإن هؤلاء أدخلوا في مذهبه أشياء من أصول المعتزلة) ، ورد في "مجموع الفتاوى" [ج12/ص: 203] ..
كانت غايتي أنا العبد لله من هذا البحث هو محاولة تشكيل مقدمة لموضوع متكامل حول رجل من رجال العلم لقب بلقب تقي الدين وسمي شيخ الإسلام..
والهدف أو المحرض الرئيسي لذلك إظهار الحق والإنصاف الذي هو في هذا الزمان عزيز، ثم نصرة نهجي الذي أعلم عن تحقق دون تعصب أنه الصواب.
ولكني صدمت، فقد وجدت أن هذا الرجل وأقصد ابن تيمية رحمه الله تعالى، هناك طائفة بالغت بحبها له، وطائفة بالغت ببغضها له، وفئة مالت للإنصاف في حقه وإن قلت..
وهو ما يعني أن هذا العالم، هو واحد من ثلاثة:
1) إما أنه مثل من أمثلة التقوى والعدالة بالحق والصدق، ولكن دون ميثاق فإن رجحت ذلك عنه وكان غير ذلك أكون قد دافعت عن من ظلم نفسه وأكون قد ظلمت نفسي أيضا بنصرته..
2) الحالة الثانية أن يكون مثل علمي سيئا وصاحب فتنة ودعوة لتجزيء الأمة وتشتيت والتشكيك بما أجمعت عليه، بدافع إحراز الشهرة الذاتية، أو مدفوع من جهة مغرضة أو معادية للإسلام، ولكن لا توثيق قطعي بذلك، فإن نصرت هذه الحالة أكون قد ظلمته وظلمت نفسي بظلمه..
3) والحالة الثالثة القول بأنه كان له بداية سيئة كعالم، ثم أستوى أمره بعد محنة أصابته ولكن قد يكون ما حدث أنه بقي على طبيعته لأنه تعرض لمحن عدة وقد لا يكون ذلك، فلا توثيق بذلك وقد يكون مظلوم من البداية لأنه سار بعكس التيار، وهو ما يعني أن ابن تيمية لا يمكن الجزم بحالة يقينا بكل الأحوال..
إنتهى،،،