تعطيل المجسمة لبعض النصوص القرآنية والنبوية

تعطيل المجسمة لبعض النصوص القرآنية والنبوية 
إن المجسمة افتروا كذبا على الله ورسوله وعلماء الأمة وعوامها , حين بنوا مذهبهم في صفات الله تعالى على طريقة عوراء , تُبْصِرُ بعض النصوص وتَعْمَى عن بعضها , بل عن أكثرها ..
وتراهم كثيرا يتهمون أهل السنة بالتعطيل - وحاشاهم - , لأنهم يريدون أن يعترف أهل السنة باتصاف الله تعالى ببعض صفات المخلوقين التي ذكرنا بعضها في المباحث السابقة , فيقولون: إن من ينكر بعض صفات الباري فهو معطّل لها .. وقد بينا ونقلنا أقوال أهل العلم من السلف والخلف في الرد على مذهبهم الباطل .. ولا حاجة لنا بتكرار النقل مرة أخرى هنا ..
على أننا سننقل من الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة ما يثبت أن المجسمة هم الذي يعطلون نصوص الله تعالى ونصوص رسوله - صلى الله عليه وسلم - , فيعملون ببعضها ويرفضون بعضها .. !!
النصوص التي أثبتوا بها - في زعمهم - أن الله تعالى في جهة فوق دون بقية الجهات:
قال تعالى: {ثم استوى إلى السماء} , {الرحمن على العرش استوى} , {يخافون ربهم من فوقهم} , {أأمنتم من السماء} , {إليه يصعد الكلم الطيب} , {وهو القاهر فوق عباده} , {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} ..
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن معاذ: "لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع سماوات" , "ينزل ربنا في كل ليلة إلى سماء الدنيا" , "أنا أمين من في السماء" ..
قالت المجسمة: كل تلك النصوص تثبت أن الله تعالى في جهة فوق دون بقية الجهات , وأنه مستوٍ على العرش بذاته , استواء فوقية واستقرار .. والحديث الذي يثبت النزول محمول على الحقيقة عندنا , والنزول لا يكون إلا من فوق .. !!

قلت: إن من المقطوع به عند أهل العلم قاطبة , أن الباحث إذا أراد أن يصدر رأيا في قضية شرعية – عَقَدِيَّةً كانت أو فقهية - , فلا بُدّ أن يجمع كل النصوص الخاصة بها .. وقد جمعتم ما ظننتم أنه يؤيد عقائدكم ورأيكم فيه تعالى , ولكنكم تجاهلتم بقية النصوص التي تفيد خلاف عقيدتكم إذا حُمِلَتْ على الحقيقة أيضا ..
وهاكم النصوص:
قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} , {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} , {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} , {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} , {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} , {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} , {وهو معهم إذ يُبَيِّتُون ما لا يرضى من القول} , {إنني معكما أسمع وأرى} , {لا تحزن إن الله معنا} , {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} , {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} ..
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَل وجهه , فإن الله تعالى قِبَل وجهه إذا صلى" , "إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم" , "الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم" , "أنا عند ظن عبدي بي , وأنا معه إذا ذكرني" , "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" , "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" , "احفظ الله تجده تجاهك" , "وفي الحديث القدسي يقول تعالى لعبده وهو يحثه على عيادة المريض: "أَمَا إنك لو أتيته لوجدتني عنده" ..

فأقول: كل هذه النصوص لو أثبتنا حقيقتها نكون قد جعلنا الله تعالى في الأرض على الحقيقة .. لأن الساجد يسجد على الأرض , والمصلي يصلي على الأرض , والقبلة على الأرض , والمصلي يواجهه الكعبة التي هي في الأرض , والذين يتناجون يتناجون على الأرض , وموسى وهارون عليهما السلام كانا على الأرض , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه كانا في الغار الذي هو على الأرض .. والشجرة التي نودي منها موسى على الأرض ..
يقول الدكتور عمر عبد الله كامل: ((إذا أردنا أن نتعامل مع النصوص التي تثبت الكون العلوي , والتي تثبت الكون السفلي .. فليس أمامنا إلا مسلكين:
(أ) المسلك الأول: الأخذ بظواهر النصوص جميعا ..
ويلزمنا حينئذ: إما الترجيح بين أدلة الكون السلفي وأدلة الكون العلوي , وإما الجمع بينها ..
أولا: الترجيح بين الأدلة:
بالنظر إلى أن النصوص الدالة على الكون السلفي أكثر من النصوص الأخرى , فيكون الله سبحانه موجودا في الأرض بذاته .. وهذا لا نقول به , لمنافاته التنزيه.
ثانيا: الجمع بين النصوص الدالة على الكون العلوي والسفلي:
فيكون الله سبحانه موجودا بذاته في كل مكان – في أرضنا والأرض السابعة وفي السماء وفوق العرش – كما تدل عليه الظواهر والحقائق اللغوية في تلك النصوص: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} , {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} , {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} .. وهذا أيضا لا نقول به لمنافاته للتنزيه ..
(ب) المسلك الثاني: التنزيه .. وهو مذهب أهل الحق ..
وهو أن الله تعالى منزه عن المكان والحدود والتحيّز وما إلى ذلك , فهو سبحانه كان موجودا وليس ثمة عرش ولا سماء ولا أرض .. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "كان الله ولم يكن شيء غيره" (1) .. ولم تحدث له سبحانه صفة بعد خلقها , وهو الآن على ما عليه كان ..
__________
(1) صحيح البخاري (3191).


                          ****************************

وإذا كانت النصوص الدالة على الكون السفلي مصروفة عن ظاهرها بقرينة تنزيه الله وتعظيمه , وتفسّر فيها المعية أو الأقربية المذكورة في بمعية العلم أو النصرة أو التأييد , وكذلك الأقربية وغيرها حسب القرآن الواردة في نفس النصوص .. فكذلك النصوص الواردة في الكون العلوي في السماء أو على العرش مصروفة بالقرائن الواردة في نفس النصوص .. لأن التواجد في مكان أو جهة كلها من صفات المخلوقات الحادثة بعد العدم)) (1) أهـ ببعض التصرف.
قلت: إذن الطريق الوحيد السديد للتعامل مع التعارض الواضح في مدلولات ظواهر تلك النصوص هو أن نفهمها كما فهمها العرب الأوائل من الصحابة والتابعين .. فنحملها على المعاني المجازية التي تدل عليها القرائن وسياقات النصوص , وإلا فإننا بذلك نلغي بعض النصوص لحساب بعضها الآخر بغير دليل , ونكون ضربنا كلام الله تعالى بعضه ببعض , على وجه يقتضي تكذيب البعض الذي تركناه .. وحاشاه سبحانه ثم حاشاه أن يكون في كلامه كذب , بل هو أصدق القائلين ..
وبقيت نقطة أيضا في هذا الموضوع .. وهي أننا لو حملنا النصوص التي يثبتون ظواهرها وحقائقها اللغوية لله تعالى لوقعنا في تعارض وتناقض شديدين , سواء في نصوص الكون العلوي والسفلي أو في بقية النصوص التي تدل على أن الله تعالى له جسم أو أجزاء وأعضاء ..
فالقوم أثبتوا لله تعالى يدين اثنتين بقوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} .. فنقول لهم: لماذا اقتصرتم على يدين اثنتين فقط , والله تعالى ذكر أيادٍ كثيرة , كما ورد في قوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} .. فإن النص يثبت أياد كثيرة ..
__________
(1) نقض قواعد التشبيه من أقوال السلف ممن قالوا بالإمرار والتفويض والتنزيه – د. عمر عبد الله كامل , ص: (113 – 114) .. طبعة دار المصطفى للطبع والنشر والتوزيع.


                         *****************************
وأثبتوا كونه تعالى فوق العرش فوقية حقيقية باستقرار وتَمَكُّنٍ وفوقيةِ مَكَانٍ من قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .. فنقول لهم: إن العرش فوق السماوات السبع كما هو معلوم , وقد قال تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} , وقد أثبتّم أنه في السماء من هذه الآية .. أفلا تستقرون على رأي في المسألة .. وتقولون هل هو في السماء أم فوق السماء ..
وأثبتوا كونه تعالى على العرش بذاته كما سبق , وأثبتوا نزوله في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا .. فنقول لهم: إن الليل لا ينتهي من الأرض أبدا .. لأننا إذا كنا في مكة الآن وكان الوقت هو الثلث الأخير من الليل , فإن الوقت نهار في طوكيو مثلا .. فيقتضي ذلك كونه على العرش بالنسبة لسكان طوكيو , وفي السماء الدنيا بالنسبة لأهل مكة .. !!
وكما هو معروف , فسينتقل الليل تدريجيا من مكة حتى يصل إلى طوكيو .. ففي تلك الأثناء سيكون فوق العرش بذاته وتحت العرش بذاته في السماء الدنيا , كل ذلك في الوقت ذاته .. !!
وهذا ما لا يقوله عاقل أبدا , فضلا عن أن يقوله مسلم ينزه ربه تعالى من مشابهة خلقه , بل من متناقضات خلقه ..