بيان دلالة عدم الفعل في الشريعة الاسلامية
سئل الشيخ طارق بن محمد السعدي الحسني :
بسم الله الرحمن الرحيم ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وطيباته.
سيدي الإمام ناصر الحق السيد طارق بن محمد السعدي الحسني، وفقك الله لما يحبه ويرضاه..
سيدي الفاضل.. هناك من يحتج ببعض الأفعال التي ما فعلها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا صحابته: أنها حرام!!
وهم هؤلاء المجسمة أو غيرهم ممن يحتجون بمسألة الترك (أي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك فعله أو لم يفعله) .
ليتك توفيني بشرح وافٍ بهذا الشأن وهو:" هل كل ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يكون إن فعلناه يقع في حكم الحرام أو البدعة؟ وإن كان بدعة، فأي حكم من أحكامها: الحسنة أو السيئة؟ وتقبل مني جزيل الشكر والامتنان.
فأجاب الشيخ بقوله :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الحمد المجيد، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد خير العَبيد، ثم على المُبَشِّرين به وآله وصَحْبِه وخُلفائه وورثته إلى يوم المَزيد.
عزيزي..، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته.
وبعد: فاعلم:
[صفة المستدل بعدم الفعل على التحريم]
أن مجرَّد " عدم الفعل ": ليس دليلاً على التحريم إلا عند من جهل الأدلّة وطرق الاستدلال بها، أمثال هؤلاء المتفيقهين الزائغين، ومن زلت قدمه من علماء المسلمين.
[ضروب ما لم يفعله الشارع والسلف]
والحقّ: أن ما لم يفعله بعينه سيدُنا رسولُ الله محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ومَنْ بعده حتى زمن فِعْلِه ضربان:
الأول: فعل له مستند من الشَّرع يفيد جوازه.
الثاني: فعل له مستند من الشَّرع يفيد حظره.
ومن ثمَّ قال سيدي الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه _ وهو أحد أعيان السلف من تابعي التابعين في القرون الأولى الفاضلة _:" كل ما له مستند من الشَّرع " [يعني يفيد جوازه] " فليس ببدعة ولو لم يعمل به السّلف "اهـ
[أقسام عدم الفعل]
ولتفصيل هذه المسألة، اعلم:
أن (عدم الفعل) على ثلاثة أقسام:
1/ (الانتهاء) وهو: عدم الفعل لوجود النّهي.
2/ (الترك) وهو: عدم الفعل مع وجود الطلب.
3/ (السُّكوت) وهو: عدم الفعل للعفو والإباحة.
[أدلة التقسيم وبيان دلالتها]
ومما يدل على هذا التقسيم:
أولاً: ما تقرَّر في الأصول: أن الأصل الجواز ما لم يدل دليل على الحظر.
ثانياً: قول سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئاً {وما كان ربك نسِياً} } [أخرجه البزار والحاكم وغيرهما، وهو صحيح] ، {إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها} [أخرجه الدارقطني وغيره] .
والمقصود بقوله {سكت} : ما اصطلحنا عليه بالترك والسكوت؛ لشمول لفظ السكوت لهما في اللغة. وقوله: {ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه} ، ولم يَقُل: (وما تركته أو سكتّ عنه) . ولا يُقال: وقد نهى عن المحدثات، فحرم ما لم يفعله!!
لأن المُحدثات المنهي عنها: هي المحدثات المتحقِّقة، أي: التي لم تستند على أصلٍ شرعي يفيد جوازها؛ إذ إطلاق الذمّ للمحدثات في " حديث البدعة ": مُقَيَّد بالمحدثات التي مستندها الحظر؛ للأخبار المتقدِّمة، ونحو حديث: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} ، على ما فصَّلناه في غير هذا الموضع.
وذلك جميعاً تأويل قول الله تعالى: {وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ؛ إذ لم يَقُل سبحانه: (وما سكت عنه أو تركه مما له مستند من الشّرع يدل عليه) ، فتنبه لهذا فإنه مهم جداً.
ثالثاً: قول سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيءٍ لم يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ " [متفق عليه] ، مبيناً: أن ما لم يرِد النصّ بتحريمه فليس حراماً.
رابعاً: ما ثبت في السنن من ترك سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلّم بعض ما طلبه من أمّته وشُرع له فعله، وترك الأمة لبعض ما طلبه أو فعله هو صلى الله عليه وآله وسلم مما لم يُفْرَض عليها.
خامساً: قول سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم في (حديث السنن) الصحيح: {من سن في الإسلام سنة حسنة: فله أجرها وأجر من عمل بها بعده لا ينقص من أجورهم شيء..} .
والسنة هي: البدعة (الكليّة أو الجزئيّة) المُتَّبَعَة.
فالمقصود: من أنشأ فعلاً مندرجاً في مستند شرعيٍّ يفيد وجوبه أو ندبه.
وإنما قلت (يفيد وجوبه أو ندبه) : لقرينة {في الإسلام} المشعرة بهذين الحكمين، وإلا فالمباح يوصف بالحسن أيضاً.
[عدم الفعل للتحريم]
فالذي يدل من هذه الأقسام على التحريم إذا: هو القسم الأول إن كان النهي للتحريم وإلا كان مكروهاً.
يهديك لذلك: نحو قول جابر بن زيد:" سألت البحر _ وكان يُسمّي سيدنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: البحر _ عن لحوم الحُمُر؟ فقرأ هذه الآية: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ مُحرّماً على طاعم يطعمه..} إلى آخر الآية "اهـ
أي: أنه اعتبر الحرام محصوراً فيما ورد النصّ بتحريمه، دون ما تركه أو سكت عنه ولو مع وجود المُقتضي.
وسيدنا ابن عباس رضي الله عنهما وجابر بن زيد هما مَن هما من علماء السّلف الصّالح رضي الله تعالى عنهم.
وكون لحوم الحمر حرام لثبوت حديث فيها: فليس يضعف استدلالنا، بل يُقَوّيه؛ إذ لمّا لم يسمعا بالتحريم، حملاه على مطلق الأدلة التي تفيد ما تقدّم: من كون المسكوت عنه ولو مع وجود المقتضي ليس حراماً. فتنبه لهذا فإنه مهم جداً
وقال الإمام الحافظ أبو الفضل الغُمَاري:" قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا سلام بن أبي مطيع عن ابن أبي دخيلة عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزّبيب والتّمر، يعني: أن يُخْلَطا.
فقال لي رجلٌ من خلفي: ما قال؟
فقلت: حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم التمر والزّبيب.
فقال عبد الله ابن عمر: كذبت.
فقلت: ألم تقل: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟! فهو حرام.
فقال: أنت تشهد بذلك؟!!
قال سلام: كأنه يقول: ما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو أدب.
قلت [يعني: السيد الغُمَاري] : أنظر إلى ابن عمر _ وهو من فقهاء الصّحابة _ كذَّبَ الذي فسّر " نهى " بلفظ " حرّم ".
وإن كان " النهيُ " يُفيد " التحريم "، لكن ليس صريحاً فيه؛ بل يفيد " الكراهة " أيضاً، وهي المراد بقول سلام " فهو أدب "؛ [إذ مصطلح الأحكام الخمسة وغيرها لم يكن مقرراً متداولاً بعد، فتتوقف إفادة " النهي " " التحريمَ أو الكراهةَ " على القرائن المحتفّة به] .
ومعنى كلام ابن عمر: أن المسلم لا يجوز له أن يتجرّأ على الحُكم بالتحريم إلا بدليل صريح من الكتاب والسنّة، [يعني: قطعي، لا يدخله الشّك والاحتمال لذاته أو بغيره] .
وعلى هذا دَرَج الصّحابة والتّابعون والأئمّة:
قال إبراهيم النّخعي _ وهو تابعي _: كانوا يكرهون أشياء لا يُحرّمونها، [بل في السنّة: أن سيدنا رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يدع الفعل وهو أحب إليه؛ خشية أن يُفرض على الناس، كما في الصحيحين وغيرهما] .
وكذلك كان مالك والشافعي وأحمد: كانوا يتوقون إطلاق لفظ " الحرام " على ما لم يُتَيَقّن تحريمه؛ لنوع شبهة فيه، أو اختلاف، أو نحو ذلك، [فضلاً عما جاء التصريح والدليل العامّ أو الخاصّ بإباحته أو ندبه] .
بل كان أحدُهم يقول:" أكره كذا "، لا يزيد على ذلك.
ويقول الإمام الشافعي تارة:" أخشى أن يكون حراماً "، ولا يَجزم بالتحريم.
يخاف أحدهم إذا جزم بالتحريم أن يشمله قول الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} .
فما لهؤلاء المتزمّتين اليوم يجزمون بتحريم أشياء مع المبالغة في ذمّها بلا دليل، إلا دعواهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها!! وهذا لا يُفيد تحريماً ولا كراهة، فهم داخلون في عموم الآية المذكورة..
ولا يُقال: إباحة هذه الأشياء ونحوها داخلة في عموم الآية؛ لأنا نقول: ما لم يرد نهي عنه يُفيد تحريمه أو كراهته فالأصل فيه الإباحة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وما سكت عنه فهو عفو} ، أي: مباح "اهـ [حسن التفهّم] ، وما بين المعقوفتين [ ] من زيادتي؛ للتوضيح وتمام الفائدة.
[حكمة إدخال الإباحة في جملة الذم]
فإن قيل: فما الحكمة إذا من إدخال الحكم بالإباحة في جملة الذّم المذكور؟
قلنا: لأن عدم وجود النهي شرط للإباحة، فلا يصح أن يسارع الناس إلى الإباحة قبل التحقّق من دليلها: بعدم وجود النهي المفيد للتحريم.
فمن بادر قبل ذلك فقد استحق الذّم.
وأزيدك: من خلال تأمّلك قول سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلّم: {أعظم المسلمين في المسلمين جرماً: مَن سأل عن شيءٍ لم يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ} [متفق عليه] ، فكيف بمن حرّم على المسلمين ما أُحِلّ لهم فضلاً عما نُدِب؟!!
[لازم مذهب المبتدعة في عدم الفعل]
هذا، وإن مذهب هؤلاء المبتدعة في هذا الوجه، سيّما ما كان مقتضاه موجود زمن التّشريع: يلزم منه ردّ كلّ ما لم يَرِدْ على لسان الشّارع نفسه مطلقاً، سواءٌ أكان من فعل الأوّلين أو الآخرين؛ وذلك: أن التشريع اكتمل:
فما جاز للأولين فعله جاز للآخرين.
وتجويز إحداث فعل في وجه من الوجوه: تجويز في الكل؛ بلا دليل على التّخصيص.
فيترتّب على مذهب هؤلاء إذاً: عدم قَبُول شيء من تأويل النّصوص _ أي: بيان مراد الشارع بها معنى أو حكماً _ من أحد لم يرفع ذلك إلى سيّدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم!!
وذلك لم يَقُل به أحدٌ؛ لِما لا يخفى من استلزامه الجمود والجهالة؛ إذ لم يؤول الشّارع كل خطابه، اكتفاءً بما قرّر من أصول.
[حكم الاستدلال بعدم فعل السلف]
ويتبيّن بما ذكرنا: فساد الاستدلال بفعل السّلف، سيّما فيما خالف حكماً ثابتاً لم يبلغهم على الأرجح.
[الرد على تهويلات المبتدعة في هذه المسألة]
تنبيه: وعلى ما تقدّم: فإن ما يذيعه هؤلاء المبتدعة من التهويلات في هذا الشأن _ نحو قولهم:" وأشد الناس تعظيماً للشرع واتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم هم الصّحابة رضي الله عنهم.. ومع هذا التعظيم ما فعلوا هذا الأمر، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه "، وقولهم:" لماذا تأخّر القيام بهذا الفعل، فلم يقم به أفضل القرون من الصّحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشدّ محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالحسن؟ فهل كان مَن أحدث هذا الفعل أهدى منهم، وأعظم معرفة بالله تعالى؟ " _: نفخٌ في غير ضَرم، واستسمانٌ لذي ورم، لا يُسمن ولا يُغني من جوع.
ومع ذلك: فإنه [أي: تهويلات المبتدعة] : تقريرٌ أن زيادة المفضول على الفاضل ممنوعة، بل تعني أفضلية المفضول على الفاضل!!
وهذا جهل مركب قد نادوا به على أنفسهم؛ إذ لا يخفى على أحدٍ ما ورد في الشرع من قصص عن مفضولين أنجزوا ما لم ينجزه الفاضلون وزادوا عليهم.
وفي الخبر الصحيح عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال:" أنتم أكثر صلاة، وأكثر صياماً، وأكثر جهاداً من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيراً منكم "اهـ
[التساؤل عن عدم فعل السابقين للمحدث، وبيان مذهب السلف]
ولئن بالغ عنجهيّ منهم فسأل عن سبب عدم فعل السابقين لذلك!!
قلنا له _ مع أن ذلك مما لا يعنينا بعد ثبوت مشروعيّته والحث عليه، وما علمت من كون فعلهم أو عدمه لا يُثبت حكماً :
كان بين أيديهم واجبات أذهلتهم عن مثل عن ذلك؛ إذ كان الهمّ حينئذ: جمع الشريعة المسندة من الكتاب والسنّة.
ومع ذلك فلا يشك عاقل بتوقف السلف الصالح على النصِّ بحسب دلالته العامّة أو الخاصّة، كما أنهم لم يُصرّحوا بحرمة المتروك أو المسكوت عنه.
[المتروك الجائز]
وعلى ذلك جميعاً: فالمتروك الجائز: بدعة حسنة، باعتبار عينه لا جنسه.
ومِن ثم: يكون بحسب أصله ومستنده: واجباً أو مندوباً أو مباحاً.
أو يكون بدعة سيئة مكروهة إن كان أصله ومستنده الكراهة؛ لأن المكروه ليس حراماً. فتنبه
والحمد لله رب العالمين.
سئل الشيخ طارق بن محمد السعدي الحسني :
بسم الله الرحمن الرحيم ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وطيباته.
سيدي الإمام ناصر الحق السيد طارق بن محمد السعدي الحسني، وفقك الله لما يحبه ويرضاه..
سيدي الفاضل.. هناك من يحتج ببعض الأفعال التي ما فعلها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا صحابته: أنها حرام!!
وهم هؤلاء المجسمة أو غيرهم ممن يحتجون بمسألة الترك (أي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك فعله أو لم يفعله) .
ليتك توفيني بشرح وافٍ بهذا الشأن وهو:" هل كل ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يكون إن فعلناه يقع في حكم الحرام أو البدعة؟ وإن كان بدعة، فأي حكم من أحكامها: الحسنة أو السيئة؟ وتقبل مني جزيل الشكر والامتنان.
فأجاب الشيخ بقوله :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الحمد المجيد، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد خير العَبيد، ثم على المُبَشِّرين به وآله وصَحْبِه وخُلفائه وورثته إلى يوم المَزيد.
عزيزي..، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيباته.
وبعد: فاعلم:
[صفة المستدل بعدم الفعل على التحريم]
أن مجرَّد " عدم الفعل ": ليس دليلاً على التحريم إلا عند من جهل الأدلّة وطرق الاستدلال بها، أمثال هؤلاء المتفيقهين الزائغين، ومن زلت قدمه من علماء المسلمين.
[ضروب ما لم يفعله الشارع والسلف]
والحقّ: أن ما لم يفعله بعينه سيدُنا رسولُ الله محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ومَنْ بعده حتى زمن فِعْلِه ضربان:
الأول: فعل له مستند من الشَّرع يفيد جوازه.
الثاني: فعل له مستند من الشَّرع يفيد حظره.
ومن ثمَّ قال سيدي الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه _ وهو أحد أعيان السلف من تابعي التابعين في القرون الأولى الفاضلة _:" كل ما له مستند من الشَّرع " [يعني يفيد جوازه] " فليس ببدعة ولو لم يعمل به السّلف "اهـ
[أقسام عدم الفعل]
ولتفصيل هذه المسألة، اعلم:
أن (عدم الفعل) على ثلاثة أقسام:
1/ (الانتهاء) وهو: عدم الفعل لوجود النّهي.
2/ (الترك) وهو: عدم الفعل مع وجود الطلب.
3/ (السُّكوت) وهو: عدم الفعل للعفو والإباحة.
[أدلة التقسيم وبيان دلالتها]
ومما يدل على هذا التقسيم:
أولاً: ما تقرَّر في الأصول: أن الأصل الجواز ما لم يدل دليل على الحظر.
ثانياً: قول سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئاً {وما كان ربك نسِياً} } [أخرجه البزار والحاكم وغيرهما، وهو صحيح] ، {إن الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها} [أخرجه الدارقطني وغيره] .
والمقصود بقوله {سكت} : ما اصطلحنا عليه بالترك والسكوت؛ لشمول لفظ السكوت لهما في اللغة. وقوله: {ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه} ، ولم يَقُل: (وما تركته أو سكتّ عنه) . ولا يُقال: وقد نهى عن المحدثات، فحرم ما لم يفعله!!
لأن المُحدثات المنهي عنها: هي المحدثات المتحقِّقة، أي: التي لم تستند على أصلٍ شرعي يفيد جوازها؛ إذ إطلاق الذمّ للمحدثات في " حديث البدعة ": مُقَيَّد بالمحدثات التي مستندها الحظر؛ للأخبار المتقدِّمة، ونحو حديث: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} ، على ما فصَّلناه في غير هذا الموضع.
وذلك جميعاً تأويل قول الله تعالى: {وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ؛ إذ لم يَقُل سبحانه: (وما سكت عنه أو تركه مما له مستند من الشّرع يدل عليه) ، فتنبه لهذا فإنه مهم جداً.
ثالثاً: قول سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: {أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيءٍ لم يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ " [متفق عليه] ، مبيناً: أن ما لم يرِد النصّ بتحريمه فليس حراماً.
رابعاً: ما ثبت في السنن من ترك سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلّم بعض ما طلبه من أمّته وشُرع له فعله، وترك الأمة لبعض ما طلبه أو فعله هو صلى الله عليه وآله وسلم مما لم يُفْرَض عليها.
خامساً: قول سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم في (حديث السنن) الصحيح: {من سن في الإسلام سنة حسنة: فله أجرها وأجر من عمل بها بعده لا ينقص من أجورهم شيء..} .
والسنة هي: البدعة (الكليّة أو الجزئيّة) المُتَّبَعَة.
فالمقصود: من أنشأ فعلاً مندرجاً في مستند شرعيٍّ يفيد وجوبه أو ندبه.
وإنما قلت (يفيد وجوبه أو ندبه) : لقرينة {في الإسلام} المشعرة بهذين الحكمين، وإلا فالمباح يوصف بالحسن أيضاً.
[عدم الفعل للتحريم]
فالذي يدل من هذه الأقسام على التحريم إذا: هو القسم الأول إن كان النهي للتحريم وإلا كان مكروهاً.
يهديك لذلك: نحو قول جابر بن زيد:" سألت البحر _ وكان يُسمّي سيدنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: البحر _ عن لحوم الحُمُر؟ فقرأ هذه الآية: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ مُحرّماً على طاعم يطعمه..} إلى آخر الآية "اهـ
أي: أنه اعتبر الحرام محصوراً فيما ورد النصّ بتحريمه، دون ما تركه أو سكت عنه ولو مع وجود المُقتضي.
وسيدنا ابن عباس رضي الله عنهما وجابر بن زيد هما مَن هما من علماء السّلف الصّالح رضي الله تعالى عنهم.
وكون لحوم الحمر حرام لثبوت حديث فيها: فليس يضعف استدلالنا، بل يُقَوّيه؛ إذ لمّا لم يسمعا بالتحريم، حملاه على مطلق الأدلة التي تفيد ما تقدّم: من كون المسكوت عنه ولو مع وجود المقتضي ليس حراماً. فتنبه لهذا فإنه مهم جداً
وقال الإمام الحافظ أبو الفضل الغُمَاري:" قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا سلام بن أبي مطيع عن ابن أبي دخيلة عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزّبيب والتّمر، يعني: أن يُخْلَطا.
فقال لي رجلٌ من خلفي: ما قال؟
فقلت: حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم التمر والزّبيب.
فقال عبد الله ابن عمر: كذبت.
فقلت: ألم تقل: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟! فهو حرام.
فقال: أنت تشهد بذلك؟!!
قال سلام: كأنه يقول: ما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو أدب.
قلت [يعني: السيد الغُمَاري] : أنظر إلى ابن عمر _ وهو من فقهاء الصّحابة _ كذَّبَ الذي فسّر " نهى " بلفظ " حرّم ".
وإن كان " النهيُ " يُفيد " التحريم "، لكن ليس صريحاً فيه؛ بل يفيد " الكراهة " أيضاً، وهي المراد بقول سلام " فهو أدب "؛ [إذ مصطلح الأحكام الخمسة وغيرها لم يكن مقرراً متداولاً بعد، فتتوقف إفادة " النهي " " التحريمَ أو الكراهةَ " على القرائن المحتفّة به] .
ومعنى كلام ابن عمر: أن المسلم لا يجوز له أن يتجرّأ على الحُكم بالتحريم إلا بدليل صريح من الكتاب والسنّة، [يعني: قطعي، لا يدخله الشّك والاحتمال لذاته أو بغيره] .
وعلى هذا دَرَج الصّحابة والتّابعون والأئمّة:
قال إبراهيم النّخعي _ وهو تابعي _: كانوا يكرهون أشياء لا يُحرّمونها، [بل في السنّة: أن سيدنا رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يدع الفعل وهو أحب إليه؛ خشية أن يُفرض على الناس، كما في الصحيحين وغيرهما] .
وكذلك كان مالك والشافعي وأحمد: كانوا يتوقون إطلاق لفظ " الحرام " على ما لم يُتَيَقّن تحريمه؛ لنوع شبهة فيه، أو اختلاف، أو نحو ذلك، [فضلاً عما جاء التصريح والدليل العامّ أو الخاصّ بإباحته أو ندبه] .
بل كان أحدُهم يقول:" أكره كذا "، لا يزيد على ذلك.
ويقول الإمام الشافعي تارة:" أخشى أن يكون حراماً "، ولا يَجزم بالتحريم.
يخاف أحدهم إذا جزم بالتحريم أن يشمله قول الله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} .
فما لهؤلاء المتزمّتين اليوم يجزمون بتحريم أشياء مع المبالغة في ذمّها بلا دليل، إلا دعواهم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها!! وهذا لا يُفيد تحريماً ولا كراهة، فهم داخلون في عموم الآية المذكورة..
ولا يُقال: إباحة هذه الأشياء ونحوها داخلة في عموم الآية؛ لأنا نقول: ما لم يرد نهي عنه يُفيد تحريمه أو كراهته فالأصل فيه الإباحة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وما سكت عنه فهو عفو} ، أي: مباح "اهـ [حسن التفهّم] ، وما بين المعقوفتين [ ] من زيادتي؛ للتوضيح وتمام الفائدة.
[حكمة إدخال الإباحة في جملة الذم]
فإن قيل: فما الحكمة إذا من إدخال الحكم بالإباحة في جملة الذّم المذكور؟
قلنا: لأن عدم وجود النهي شرط للإباحة، فلا يصح أن يسارع الناس إلى الإباحة قبل التحقّق من دليلها: بعدم وجود النهي المفيد للتحريم.
فمن بادر قبل ذلك فقد استحق الذّم.
وأزيدك: من خلال تأمّلك قول سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلّم: {أعظم المسلمين في المسلمين جرماً: مَن سأل عن شيءٍ لم يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ} [متفق عليه] ، فكيف بمن حرّم على المسلمين ما أُحِلّ لهم فضلاً عما نُدِب؟!!
[لازم مذهب المبتدعة في عدم الفعل]
هذا، وإن مذهب هؤلاء المبتدعة في هذا الوجه، سيّما ما كان مقتضاه موجود زمن التّشريع: يلزم منه ردّ كلّ ما لم يَرِدْ على لسان الشّارع نفسه مطلقاً، سواءٌ أكان من فعل الأوّلين أو الآخرين؛ وذلك: أن التشريع اكتمل:
فما جاز للأولين فعله جاز للآخرين.
وتجويز إحداث فعل في وجه من الوجوه: تجويز في الكل؛ بلا دليل على التّخصيص.
فيترتّب على مذهب هؤلاء إذاً: عدم قَبُول شيء من تأويل النّصوص _ أي: بيان مراد الشارع بها معنى أو حكماً _ من أحد لم يرفع ذلك إلى سيّدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم!!
وذلك لم يَقُل به أحدٌ؛ لِما لا يخفى من استلزامه الجمود والجهالة؛ إذ لم يؤول الشّارع كل خطابه، اكتفاءً بما قرّر من أصول.
[حكم الاستدلال بعدم فعل السلف]
ويتبيّن بما ذكرنا: فساد الاستدلال بفعل السّلف، سيّما فيما خالف حكماً ثابتاً لم يبلغهم على الأرجح.
[الرد على تهويلات المبتدعة في هذه المسألة]
تنبيه: وعلى ما تقدّم: فإن ما يذيعه هؤلاء المبتدعة من التهويلات في هذا الشأن _ نحو قولهم:" وأشد الناس تعظيماً للشرع واتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم هم الصّحابة رضي الله عنهم.. ومع هذا التعظيم ما فعلوا هذا الأمر، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه "، وقولهم:" لماذا تأخّر القيام بهذا الفعل، فلم يقم به أفضل القرون من الصّحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشدّ محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالحسن؟ فهل كان مَن أحدث هذا الفعل أهدى منهم، وأعظم معرفة بالله تعالى؟ " _: نفخٌ في غير ضَرم، واستسمانٌ لذي ورم، لا يُسمن ولا يُغني من جوع.
ومع ذلك: فإنه [أي: تهويلات المبتدعة] : تقريرٌ أن زيادة المفضول على الفاضل ممنوعة، بل تعني أفضلية المفضول على الفاضل!!
وهذا جهل مركب قد نادوا به على أنفسهم؛ إذ لا يخفى على أحدٍ ما ورد في الشرع من قصص عن مفضولين أنجزوا ما لم ينجزه الفاضلون وزادوا عليهم.
وفي الخبر الصحيح عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال:" أنتم أكثر صلاة، وأكثر صياماً، وأكثر جهاداً من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيراً منكم "اهـ
[التساؤل عن عدم فعل السابقين للمحدث، وبيان مذهب السلف]
ولئن بالغ عنجهيّ منهم فسأل عن سبب عدم فعل السابقين لذلك!!
قلنا له _ مع أن ذلك مما لا يعنينا بعد ثبوت مشروعيّته والحث عليه، وما علمت من كون فعلهم أو عدمه لا يُثبت حكماً :
كان بين أيديهم واجبات أذهلتهم عن مثل عن ذلك؛ إذ كان الهمّ حينئذ: جمع الشريعة المسندة من الكتاب والسنّة.
ومع ذلك فلا يشك عاقل بتوقف السلف الصالح على النصِّ بحسب دلالته العامّة أو الخاصّة، كما أنهم لم يُصرّحوا بحرمة المتروك أو المسكوت عنه.
[المتروك الجائز]
وعلى ذلك جميعاً: فالمتروك الجائز: بدعة حسنة، باعتبار عينه لا جنسه.
ومِن ثم: يكون بحسب أصله ومستنده: واجباً أو مندوباً أو مباحاً.
أو يكون بدعة سيئة مكروهة إن كان أصله ومستنده الكراهة؛ لأن المكروه ليس حراماً. فتنبه
والحمد لله رب العالمين.