التصوف لا يخالف الكتاب والسنة ومصادره إسلامية

التصوف لا يخالف الكتاب والسنة ومصادره إسلامية
 المصدر: موقع دار الافتاء المصرية 
السؤال: هل صحيح ما نسمعه من أن التصوف يخالف الكتاب والسنة،
وأن مصادره غير إسلامية؟  

الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد، فقد اتهم التصوف بمخالفته للكتاب والسنة، ولعل من أسباب هذا الاتهام أن أقوامًا نظروا إلى ما أحدثه بعض مدعي التصوف، وظنوا أن ما يفعلونه هو التصوف، فقاموا في تسرع بغير روية، وبغير اطلاع على مبادئ التصوف وأقوال أئمته بإصدار الأحكام العامة مما تسبب فيما نحن فيه؛ لذا كان أهل الله من الصوفية المخلصين يعتنون ببيان أن هذه المظاهر ليست هي التصوف، فها هو أبو نصر سراج الطوسي يقول في ديوان الحلاج:
لا تسأمنَّ مقالتي يا صاح واقبل نصيحة ناصحٍ نصَّاح
ليس التصوف حيلة وتكلفًا وتقشفًا وتواجدًا بصياح
ليس التصوف كذبة وبطالة وجهالة ودعابة بمزاح
بل عفة ومروءة وفتوة وقناعة وطهارة بصلاح
وتقى وعلم واقتداء والصفا ورضى وصدق والوفا بسماح
[راجع: أشعار نسبت إلى الحلاج، صنعه وأصلحه الدكتور/ كامل مصطفى الشيبي، ط. دار آفاق عربية] .
وعبارات أئمة الصوفية تؤكد على أنه لا تصوف إلا بموافقة الكتاب والسنة، ومن ذلك ما قاله إمام الصوفية الإمام الجنيد: «الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام» [الرسالة القشيرية 1/ 79، ط. دار المعارف] وقال: «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة» . [الرسالة القشيرية 1/ 79] .

وقال شاه الكرماني [ت: 300] : «من غَضَّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعَمَّر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعَوَّد نفسه أكل الحلال، لم تخطئ له فِراسة» . [الرسالة القشيرية 1/ 94] .

وقال ذو النون المصري: «من علامات المحبة لله عز وجل متابعة حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته» . [الرسالة القشيرية 1/ 38] .

يقول الإمام تاج الدين السبكي في كتابه جمع الجوامع: «ونرى طريق الشيخ الجنيد وصحبه طريق مقوم» .
قال شارحه الجلال المحلي: «فإنه خال من البدع دائر بين التسليم والتفويض والتبري من النفس» . [2/ 491، ط. دار الكتب العلمية] .
ويقول الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري: «إن التصوف مبني على الكتاب والسنة، لا يخرج عنهما قيد أنملة» [الإعلام بأن التصوف من شريعة الإسلام ص10، ط. مكتبة القاهرة للتراث] .
وقد أنصف التصوفَ علماءٌ لم ينتسبوا إليه كابن خلدون؛ حيث أكَّد على أن أصل التصوف متابعة الكتاب والسنة وسلف هذه الأمة، فقال في مقدمته: «وأصله -أي التصوف- أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها -من الصحابة والتابعين ومن بعدهم- طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذةٍ ومالٍ وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسَّلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختصَّ المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة» . [مقدمة ابن خلدون للعلامة عبد الرحمن بن خلدون، ص576، 577، ط. دار الفجر] .

ويؤكد ابن خلدون على هذا المعنى، حيث يرى أن تدوين التصوف لم يكن بدعة ابتدعها القوم، وإنما كان كتدوين العلوم الشرعية الأخرى، فيقول: «فلما كتبت العلوم ودونت، وألفت الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقهم، فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك، كما فعله المحاسبي في كتاب الرعاية له، ومنهم من كتب في أدب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال كما فعله القشيري في كتاب الرسالة، والسهروردي في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم. وجمع الغزالي بين الأمرين في كتاب الإحياء، فدوَّن فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بيَّن آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم. وصار علم التصوف في الملة عِلمًا مُدونًا، بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط، وكانت أحكامها إنما تُتَلقى من صدور الرجال، كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك» .

كما أن المستشرقين شهدوا أن التصوف أصوله إسلامية، ومتابعة الكتاب والسنة من أسسه، وقد نقل ذلك الأستاذ الدكتور/ أمين يوسف عودة، حيث قال: «ولم يستطع المستشرقون أنفسهم، على كثافة دراساتهم للتصوف، واختلاف أهدافهم، إلا أن يقروا بالمصدر الإسلامي له» . [أصل مصطلح التصوف ودلالته ص131، 132، بحث نشر بمجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول 2003، مجلة تصدر عن المركز العلمي الصوفي بالعشيرة المحمدية- القاهرة] .

ولعل تجربة نيكولسون في هذا المجال تكون مثالا جيدًا على ذلك حينما تراجع عن آرائه السابقة التي أعلنها سنة 1906، والتي يذكر فيها أن التصوف وليد الأفلاطونية المحدثة والمسيحية والغنوصية. وقد كتب سنة 1921 مقالا يثبت فيه تراجعه، وينفي أن يكون التصوف وليد الثقافات الأجنبية، ويشير إلى أن ظاهرتي الزهد والتصوف اللتين نشأتا في الإسلام، كانتا إسلاميتين في الصميم. [في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة الدكتور/ أبو العلا عفيفي، المقدمة، ص: س- ع] .
أما ماسينيون، فإنه يرى بعد دراسته لمصطلحات التصوف أن مصادرها أربعة:
1- القرآن الكريم، وهو المصدر الرئيسي للمصطلحات الصوفية.
2- العلوم العربية الإسلامية، كالحديث والفقه وغيرها.
3- مصطلحات المتكلمين الأوائل.
4- اللغة العلمية التي تكونت في الشرق في القرون الستة المسيحية الأولى من لغات أخرى، كاليونانية والفارسية وغيرهما، وأصبحت لغة العلم والفلسفة. ثم يشير في نهاية الأمر إلى أن التصوف الإسلامي قد نشأ من صميم الإسلام نفسه، على الأقل في القرون الثلاثة الأولى، بل إن بعض المستشرقين يرى أنه: لا صوفية من غير إسلام.
وإن كنا وجدنا البيروني في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة» يوازن بين ما يعرضه من عقائد الهنود ومذاهبهم وبين أفكار الصوفية المسلمين وأقوالهم وطرقهم في الرياضة الروحية، إلا أن التشابه وحده بين مذهبين لا يفضي بالضرورة إلى القول بتأثير أحدهما في الآخر حتى نتحقق من وجود مسارب انتقل خلالها هذا التأثير بدليل مادي لا شبهة فيه. [راجع: الحياة الروحية في الإسلام، دكتور مصطفى حلمي ص40، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب] .

وعليه فإن التصوف الإسلامي ظاهرة سنية ظهرت بين أهل السنة والجماعة وصدرت عن أسس إسلامية، وهذا لا يمنع -بل لعل هذا هو ما حدث فعلًا- أنها تأثرت في رحلة تطورها الطويلة بمؤثرات خارجية كان لها أثر ملحوظ في صبغ هذه الظاهرة السنية الإسلامية ببعض الألوان الجديدة مع بقاء الظاهرة مرتبطة بأصولها الأولى، والله تعالى أعلم.