اطلعنا على الطلب المقيد برقم 81 لسنة 2006م المتضمن أن بقرية -العدوة- بالفيوم مسجدين متلاصقين بكل منهما ضريح: أحدهما لسيدي محمد العدوي، والآخر لسيدي محمد بدر الدين، ونصلي الجمعة بينهما بالتناوب منذ خمسينيات القرن الماضي، كما يحدث تشويش في الصلوات الجهرية، ويريد أحد الأشخاص بناء مسجد كبير مكانهما على نفقته، ويشترط لذلك إزالة الضريحين ونقل رفاتهما إلى مدافن القرية، ويوافق بعض الإخوة على ذلك أخذا بقول من يحرم الصلاة في المساجد التي بها أضرحة. فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب:
الصلاة في المساجد التي يوجد بها أضرحة الأولياء والصالحين صحيحة ومشروعة، بل إنها تصل إلى درجة الاستحباب، وذلك ثابت بالكتاب والسنة وفعل الصحابة وإجماع الأمة الفعلي:
فمن القرآن الكريم:
قوله تعالى: ( فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا). [الكهف: 21] . وسياق الآية يدل على أن القول الأول هو قول المشركين، وأن القول الثاني هو قول الموحدين، وقد حكى الله تعالى القولين دون إنكار، فدل ذلك على إمضاء الشريعة لهما، بل إن سياق قول الموحدين يفيد المدح، بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحدين قاطعا، وأن مرادهم ليس مجرد البناء بل المطلوب إنما هو المسجد. قال الإمام الرازي في تفسير ?لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا?: "نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد". اهـ. وقال الشهاب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي: "في هذه دليل على اتخاذ المساجد على قبور الصالحين". اهـ.
ومن السنة:
حديث أبي بصير -رضي الله عنه- الذي رواه عبد الرزاق عن معمر، وابن إسحاق في السيرة، وموسى بن عقبة في -مغازيه- وهي أصح المغازي كما يقول الإمام مالك ثلاثتهم عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم -رضي الله عنهم-: "أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو دفن أبا بصير -رضي الله عنه- لما مات وبنى على قبره مسجدا بسيف البحر، وذلك بمحضر ثلاثمائة من الصحابة". وهذا إسناد صحيح، كله أئمة ثقات، ومثل هذا الفعل لا يخفى على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومع ذلك فلم يرد أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر بإخراج القبر من المسجد أو نبشه.
كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: ((في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا)) . أخرجه البزار والطبراني في المعجم الكبير، وقال الحافظ بن حجر في مختصر زوائد البزار: "هو إسناد صحيح". وقد ثبت في الآثار أن سيدنا إسماعيل -عليه السلام- وأمه هاجر -رضي الله عنها- قد دفنا في الحجر من البيت الحرام، وهذا هو الذي ذكره ثقات المؤرخين واعتمده علماء السير: كابن إسحاق في السيرة، وابن جرير الطبري في تاريخه، والسهيلي في الروض الأنف، وابن الجوزي في المنتظم، وابن الأثير في الكامل، والذهبي في تاريخ الإسلام، وابن كثير في البداية والنهاية، وغيرهم من مؤرخي الإسلام، وأقر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك، ولم يأمر بنبش هذه القبور وإخراجها من مسجد الخيف أو من المسجد الحرام.
وأما فعل الصحابة: فقد حكاه الإمام مالك في الموطأ بلاغا صحيحا عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكان دفن الحبيب -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: "فقال ناس: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: يدفن بالبقيع، فجاء أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: ((ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه)) ، فحفر له فيه". اهـ، والمنبر من المسجد قطعا، ولم ينكر أحد من الصحابة هذا الاقتراح، وإنما عدل عنه أبو بكر -رضي الله عنه- تطبيقا لأمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدفن حيث قبضت روحه الشريفة -صلى الله عليه وآله وسلم-، فدفن في حجرة السيدة عائشة -رضي الله عنها- المتصلة بمسجده الذي يصلي فيه المسلمون، وهذا هو نفس وضع المساجد المتصلة بحجرات أضرحة الأولياء والصالحين في زماننا.
وأما دعوى الخصوصية في ذلك للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فهي غير صحيحة؛ لأنها دعوى لا دليل عليها، بل هي باطلة قطعا بدفن سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر -رضي الله عنهما- في هذه الحجرة التي كانت السيدة عائشة -رضي الله عنها- تعيش فيها وتصلي فيها صلواتها المفروضة والمندوبة، فكان ذلك إجماعا من الصحابة -رضي الله عنهم- على جوازه.
ومن إجماع الأمة الفعلي وإقرار علمائها لذلك: صلاة المسلمين سلفا وخلفا في مسجد سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والمساجد التي بها أضرحة بغير نكير، وإقرار العلماء من لدن الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة الذين وافقوا على إدخال الحجرة النبوية الشريفة إلى المسجد النبوي سنة ثمان وثمانين للهجرة، وذلك بأمر الوليد بن عبد الملك لعامله على المدينة حينئذ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، ولم يعترض منهم إلا سعيد بن المسيب لا لأنه يرى حرمة الصلاة في المساجد التي بها قبور، بل لأنه كان يريد أن تبقى حجرات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما هي يطلع عليها المسلمون حتى يزهدوا في الدنيا ويعلموا كيف كان يعيش نبيهم -صلى الله عليه وآله وسلم-،
وأما حديث عائشة -رضي الله عنها- في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) . فالمساجد: جمع مسجد، والمسجد في اللغة: مصدر ميمي يصلح للدلالة على الزمان والمكان والحدث، ومعنى اتخاذ القبور مساجد: السجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان كما فسرته الرواية الصحيحة الأخرى للحديث عند ابن سعد في الطبقات الكبرى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا بلفظ: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، فجملة ((لعن الله قوما...)) بيان لمعنى جعل القبر وثنا، والمعنى: اللهم لا تجعل قبري وثنا يسجد له ويعبد كما سجد قوم لقبور أنبيائهم. قال الإمام البيضاوي: "لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم؛ تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانا، لعنهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه، أما من اتخذ مسجدا بجوار صالح أو صلى في مقبرته وقصد به الاستظهار بروحه ووصول أثر من آثار عبادته إليه لا التعظيم له والتوجه فلا حرج
عليه، ألا ترى أن مدفن إسماعيل في المسجد الحرام ثم الحطيم، ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي بصلاته، والنهي عن الصلاة في المقابر مختص بالمنبوشة، لما فيها من النجاسة". اهـ.
ومن المقرر شرعا أن مكان القبر إما أن يكون مملوكا لصاحبه قبل موته، أو موقوفا عليه بعده، وشرط الواقف كنص الشارع، فلا يجوز أن يتخذ هذا المكان لأي غرض آخر، وقد حرم الإسلام انتهاك حرمة الأموات، فلا يجوز التعرض لقبورهم بالنبش؛ لأن حرمة المسلم ميتا كحرمته حيا، فإذا كان صاحب القبر من أولياء الله الصالحين فإن الاعتداء عليه بنبش قبره أو إزالته أشد حرمة وأعظم جرما، فإنهم موضع نظر الله تعالى، ومن نالهم بسوء أو أذى فقد تعرض لحرب الله عز وجل، كما جاء في الحديث القدسي: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)) .
رواه البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وعليه وفي واقعة السؤال: فإنه لا يجوز نبش هذين الضريحين وانتهاك حرمة الوليين الصالحين بحجة ضم المسجدين وجعلهما مسجدا واحدا، وجعل القبرين عقبة في سبيل ذلك، بل يضم المسجدان لبعضهما ويبقى الضريحان في مكانهما، ولا يجوز التوصل إلى فعل الخير بفعل الباطل، ولا يحل شرعا للقائمين على المسجدين أن يوافقوا من اشترط إزالة الضريحين لبناء المسجد على ذلك، بل يجب إبقاء المسجدين على حالهما حتى يقيض الله تعالى من أهل الخير والصلاح من يعرف لأوليائه قدرهم ويحفظ لهم حرمتهم فيبنى المسجدان مسجدا واحدا بضريحيه، وتتحقق إقامة بنيانه على تقوى من الله ورضوان. والله سبحانه وتعالى أعلم.
المصدر : دار الافتاء المصرية