حكم المصافحة عقب الصلوات

حكم المصافحة عقب الصلوات
من كتاب / حكم المصافحة عقب الصلوات الخمس
تأليف /السيد عبد الحي بن الصديق الغماري.
الطبعة الأولى -1427هـ - 2006م دار الأثار الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله , والصلاة والسلام على مولانا رسول الله واله وصحبه الذين اقتفوا طريقه , واتبعؤا هديه , وبلغوا سنته وبعد...
فإن المصافحة عقب الصلوات المفروضة لاكراهة فيهاأصلاً بل هى دائرة بين الجواز والإستحباب وجانب الاستحباب أرجح كما يدل على ذلك الأدلة التالية:
الدليل الأول: الأحاديث الصحيحة الكثيرة الواردة عن النبي "ص" في الحث عليها والترغيب فيها مطلقاً منغير تقييد ولا تخصيص بوقت دون وقت ولا حال دون حال , منها: ما رواه أبو داود والترمذي وحسنه عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله "ص" (ما من مسلمَيْن التقيا فتصافحا إلا غُفر لهما قبل أن يتفرقا) .
- ومنها ما رواه أحمد والبزَّار وأبو يعلى عن أنس رضي الله عنه عن النبي "ص" قال: (ما من مسلمَيْن التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلا كان حقاً على اللهأن يحضر دعائهماو لا يفرق بين أيديهماحتى يغفر لهما)

_ ومنهما ما رواه البزَّار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله "ص" (إذا التقى الرجلان المسلمان , فسلم أحدهما على صاحبهفإن أحبهما إلى الله تعالى أحسنهما بشراً لصاحبه فإذا تصافحا نزلت عليهما مائة رحمة للبادئ منهما تسعون وللمصافح عشرة)
والأحاديث الواردة في الترغيب في المصافحة كثيرة وليس هذا موضع استقصاء ذكرها لأن المراد هنا هو الإشارة إلى ما يدل على غيره مما لم نورده قصد الإختصار.
فهذه الأحاديث دالة دلالة ظاهرة على استحباب المصافحة عند لقاء المسلم أخاه في كل وقت ووقت ولا مكان ومكان ولا بين كونها عقب الصلاة أو لا لأنها عامة يندرج تحت عمومها صورة السلام عقب الصلوات بدون أدنى شك.
فعلى من يزعم تخصيصها بأن لا تكون عقب الصلاة أن يأتي بدليل لدعوى التخصيص فإنه لن يجد إليه سبيلاً.
وقد كان الصحابة رضىي الله عنهم يتصافحون عند لقاء بعضهم بعضا في كل وقت تمسكاً منهم بعموم هذهالأحاديث وأمثالها:
- فقد أخرج الطبراني بإسناد صحيح عن انس رضي الله عنه قال: (كان أصحاب رسول الله"ص" إذا تلاقوا تصافحواإذا قدموا من سفر تعانقوا) .
فإن قيل: إنَّ هذه الأحاديث تدل على: سنية المصافحة عند اللقاء والمصلون يلتقون قبل الصلاة فلا تستحب في حقهم عقبها لفوات وقتها.
فالجواب: أن المراد: الإلتقاء التام الذي يتمكن معه الملتقيان من المصافحة وهو لا يتم إلا بعد الإنتهاء من الصلاة , لأنا نعلم بالمشاهدة أن الداخل إلى المسجد إذا وجد الصلاة لم تقم اشتغل بصلاة التحية كما هو المطلوب شرعاً وإذا وجدها قد أقيمت دخل في الصلاة.
وفي كلتا الحالتين: لا يتمكن من فعل امصافحة التي رغّب فيها رسول الله "ص" وبيّن ما فيها من الأجر العظيم والثواب الجزيل إلا بعد الإنتهاء من الصلاة فتكون المصافحة عقبها " مستحبة " لأن الالتقاء المراد من هذه الأحاديث
لا يتم إلا حينئذ كما هو ظاهر. على أنه لو تم التقاؤهم وتصافحهم قبل الصلاة لكانت المصافحة عقبها: مستحبة أيضا حتى على هذا الإحتمال البعيد. ذلك لأن المقصود من تشريعها هو: كونها سببا ً للأ لفة والمحبة بين المسلم وأخيه كما نبّه عليه "ص" حيث قال: (تصافحوا يذهب الغل) رواه مالك في (الموطأ)
وما كان وسيلة للألفة والمودة بين المسلمين فهو مطلوب مرّغب فيه مستحب في كل وقت لأنه وسيلة إلى أعظم المقاصد وأجلّها في شريعتنا وهو: التوادد والتحابب بين المؤمنين.
فقد شرع رسول الله "ص" لهذا المقصد العظيم الذي به صلاح هذه الأمة وفوزها وفلاحها في الدنيا والأخرة وانتصارها على أعدائها من الوسائل المفضية إليه ما لا يمكن عده في هذه العجالة غير أننا نشير إشارة وجيزة إلى بعض ما له اتصال وارتباط بهذه المسألة وهو السلام
فإنه مرتبط بالمصافحة ارتباطا وثيقا كما يتبين ذلك للناظر في الأحاديث الواردة فيهما
حتى عدّهم الغزالي في (الإحياء) شيئاً واحداً.
وهو مصيب في ذلك لأن السلام وإن جاء الأمر به دون المصافحة في بعض الأحاديث جاء مقروناً بها في أحاديث أخرى فيحمل إطلاق تلك على تقييد هذه على ما هو معلوم في أصول الفقه بل ورد ما هو أوضح وأصرح في الدلالة على اتحادهما كما أشرنا إليه.
والمقصود الان: أن نبين أنه صلى الله عليه وآله وسلم شرع في السلام المبادرة إليه وإفشائه وتعميمه بأن لا يخص به الرجل من يعرفه دون من لا يعرفه وجعله شرطاً في الإيمان ودخول الجنة وشرعه عند اللقاء وعند الفراق وغير هذا مما جاء في السنة من الأحكام المتعلقة بالسلام.
ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شئ إذا فلتموه تحببتم؟ أفشوا السلام بينكم) .
_ وفي صحيح مسلم عن بن عمرو بن العاص أن رجلاً سأل رسول الله "ص": أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام , وتقرئ السلام على منعرفت ومن لم تعرف) .

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.
وقد علمت مما مر بك أنّ المصافحة شُرعت لهذا المعنى فيكون الإكثار منها وتكرارها عند المناسبة كالاجتماع والافتراق: مطلوباً مستحباً لما فيه من المصلحة التي اعتبرها الشارع أيما اعتبار, كما ان السلام مطلوب مستحب عند ذلك.
فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسلم بعضهم على بعض لأدنى مناسبة , حتى قال أنس بن مالك: (كنَّا إذا كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه واله سلم فتفرِّق بيننا شجرة فإذا التقينا يسلم بعضنا على بعض) . رواه الطبراني بإسناد حسن.
ومما لا شك فيه: أنهم كانوا يتصافحون عند السلام لما تقدم عن أنس أنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تلاقوا تصافحوا) . و (كان) تفيد التكرار غالباً على ماتقرر في محله وهذا الدليل ينتج: أن المصافحة عقب الصلوات: (مستحبة)  يؤيده ويزيده بياناً:
الدليل الثاني: وهو أنك قد علمت أنَّ المقصود من تشريع السلام والمصافحة: كونهما سبباً للمودة والألفة بين المسلمين السلاميسن عند: (اللقاء والإفتراق) .
_ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ى"ص":إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم , فإذا أراد أن يقوم فليسلم , فليست الأولى أحق من الثانية) رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه.
_ وعن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله "ص" قال: (حق من قام على جماعة أن يسلم عليهم, وحق على من قام من مجلس أن يسلم) رواه أحمد
فهاذان الحديثان يدلان على: (سنية السلام عند الإفتراق) كما يسن عند اللقاء.
وقد علمت من الأدلة السابقة: أن المصافحة مثله (فتسن أيضاً عقب الصلوات الخمس لافتراق المصلين) حتى على فرض وقوعها منهم قبلها كما يسن لهم السلام عند التقائهم وافتراقهم.
فقياس المصافحة على السلام في: (السنيَّعند الافتراق) : من أقوى الأقيسة وأصحها دلا لة على الحكملأن الجامع فيه هو: (عدم الفارق) .

يؤيده هذا ويزيده إيضاحاً:
الدليل الثالث: وهو أنه صلى الله عليه وسلم جعلها _ أي المصافحة _ (من تمام السلام)
ففي سنن أبي داود عن البراء قال: قال رسول الله "ص": (إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفرلهما) .
وفي (معجم الطبراني الأوسط) عن حذيفة قال: قال رسول الله "ص": (إن المؤمن إذا لقى المؤمنفسلم عليه وأخذ بيديه فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر) .
فعطف "ص" فعل (صافح) على فعل (سلم) بـ (الفاء)  الدالة على التعقيب وجعل السلام والمصافحة شرطاً في تناثر الخطايا. وهذا يدل على أنَّها تتم السلام وتكَّمله او أنهما كالشئ الواحد.
وأصرح من هذا في الدلالة على أنها: (من تمام السلام)
* ما رواه أحمد والترمذي عن أبي أمامة فال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تمام تحيتكم بينكم المصافحة) .
* وما رواه الترمذي عن بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من التحية الأخذ باليد)
* فإذا: * كانت المصافحة من تمان السلام. * وكان السلام يسن عند الافتراق.
كانت المصافحة عقب الصلوات (سُنة) لأنها من تمام السلام الذي يسن عند الإفتراق.
والله سبحانه أعلى وأعلم.
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.