البدعة بدعتان عند أهل السنة والجماعة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد وعلى جميع إخوانه النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه وسائر الصالحين، أما بعد :
فهذا  بيان أن البدعة بدعتان عند أهل السنة والجماعة وحديث: وكل بدعة ضلالة، عام مخصوص.

تعريف البدعة
لغةً ما أُحدث على غير مثال سابق، يقال: جئت بأمر بديع أي محدث عجيب لم يعرف قبل ذلك. وفي الشرع: المحدَث الذي لم ينصَّ عليه القرءان ولا جاء في السنة، كما ذكر ذلك اللغوي المشهور الفيومي في كتابه "المصباح المنير" مادة "ب د ع"، وذكر ذلك أيضا الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في "تاج العروس" مادة "ب د ع".
ففي "المصباح المنير" (ص/138) : أبدع الله تعالى الخلق إبداعا خلقهم لا على مثال وأبدعت وأبدعته، استخرجته وأحدثته ومنه قيل للحالة المخالفة بدعة وهى اسم من الابتداع كالرفعة من الارتفاع ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة لكن قد يكون بعضها غير مكروه فيسمى بدعة مباحة وهو ما شهد لجنسه أصل في الشرع أو اقتضته مصلحة يندفع بها مفسدة "اهـ.
وفى المعجم الوجيز (ج1/ص45) : "هي ما استحدث فى الدين وغيره تقول بدعه بدعا أي أنشأه على غير مثال سابق"اهـ

أقسام البدعة
قال ابن العربي: " ليست البدعة والمحدَث مذمومين للفظ بدعة ومحدث ولا معنييهما، وإنما يذم من البدعة ما يخالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى الضلالة"اهـ.

وقال النووي في كتاب تهذيب الأسماء واللغات، مادة (ب د ع) ج3/22 ما نصه: "البدعة بكسر الباء في الشرع هي: إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وءاله وسلم، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة، قال الإِمام الشيخ المجمع على إمامته وجلالته وتمكّنه في أنواع العلوم وبراعته أبو محمّد عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه في ءاخر كتاب القواعد: "البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة. قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإِيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فمحرّمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة".انتهى كلام النووي.

فالبدعة تنقسم إلى قسمين
بدعة ضلالة: وهي المحدثة المخالفة للكتاب والسنة.
وبدعة هدى: وهي المحدثة الموافقة للكتاب والسنة.
وهذا التقسيم مفهوم من حديث البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". ورواه مسلم بلفظ ءاخر وهو: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". فأفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"ما ليس منه" أن المحدَث إنما يكون ردًّا أي مردودًا إذا كان على خلاف الشريعة، وأن المحدَث الموافق للشريعة ليس مردودًا.
وهو مفهوم أيضًا مما رواه مسلم في صحيحه من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء ".
وفي صحيح البخاري في كتاب صلاة التراويح ما نصه: " قال ابن شهاب: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس على ذلك"، قال الحافظ ابن حجر: " أي على ترك الجماعة في التراويح". ثم قال ابن شهاب في تتمة كلامه: " ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه".
وفي البخاري أيضًا تتميمًا لهذه الحادثة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر: "نعم البدعة هذه".اهـ
وفي الموطأ بلفظ:" نِعمت البدعة هذه"اهـ.
فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن العرباض بن سارية: "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
فالجواب: أن هذا الحديث لفظه عام ومعناه مخصوص بدليل الأحاديث السابق ذكرها فيقال: إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث على خلاف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو الأثر.

هذا وأما من حيث التفصيل فالبدعة منقسمة إلى الأحكام الخمسة وهي الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام كما نص علماء المذاهب الأربعة:
البدعة فى المذاهب الفقهية:
المذهب الحنفي:
1- قال الشيخ ابن عابدين الحنفي في حاشيته (1/376) : "فقد تكون البدعة واجبة كنصب الأدلة للرد على أهل الفرق الضالة، وتعلّم النحو المفهم للكتاب والسنة، ومندوبة كإحداث نحو رباط ومدرسة، وكل إحسان لم يكن في الصدر الأول، ومكروهة كزخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع بلذيذ المآكل والمشارب والثياب"انتهى.
2- قال بدر الدين العيني في شرحه لصحيح البخاري (ج11/126) عند شرحه لقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: "نعمت البدعة" وذلك عندما جمع الناس في التراويح خلف قارىءٍ وكانوا قبل ذلك يصلون أوزاعًا متفرقين: "والبدعة في الأصل إحداث أمر لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم البدعة على نوعين، إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي بدعة مستقبحة"انتهى.

المذهب المالكي:
1- قال محمد الزرقاني المالكي في شرحه للموطأ (ج1/238) عند شرحه لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "نعمت البدعة هذه" فسماها بدعة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسنّ الاجتماع لها ولا كانت في زمان الصديق، وهي لغة ما أُحدث على غير مثال سبق وتطلق شرعًا على مقابل السنة وهي ما لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ثم تنقسم إلى الأحكام الخمسة. انتهى
2- قال الشيخ أحمد بن يحيى الونشريسي المالكي في كتاب المعيار المعرب (ج1/357-358) ما نصه: "وأصحابنا وإن اتفقوا على إنكار البدع في الجملة فالتحقيق الحق عندهم أنها خمسة أقسام"، ثم ذكر الأقسام الخمسة وأمثلة على كل قسم ثم قال: "فالحق في البدعة إذا عُرضت أن تعرض على قواعد الشرع فأي القواعد اقتضتها ألحقت بها، وبعد وقوفك على هذا التحصيل والتأصيل لا تشك أن قوله صلى الله عليه وسلم:" كل بدعة ضلالة"، من العام المخصوص كما صرح به الأئمة رضوان الله عليهم".اهـ

المذهب الشافعي:
1- الإمام الشافعي:
أ- قال الشافعي رضي الله عنه: المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة. رواه البيهقي في (مناقب الشافعي) (ج1/469) ، وذكره الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : (13/267) .
ب- روى الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية الأولياء ج 9 ص76 عن إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا حرملة بن يحيى قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يقول: البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: نعمت البدعة هي" اهـ
2- قال أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، كتاب ءاداب الأكل ج2/3 ما نصه: "وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب" اهـ
3- قال العز بن عبد السلام في كتابه "قواعد الأحكام" (ج2/172-174) : البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة ثم قال: والطريق في ذلك أن تُعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة، انتهى.
4- قال النووى فى شرحه على صحيح مسلم" (6/154-155) : قوله صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) هذا عامٌّ مخصوص، والمراد: غالب البدع. قال أهل اللُّغة: هي كلّ شيء عمل عَلَى غير مثال سابق. قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرَّمة، ومكروهة، ومباحة. فمن الواجبة: نظم أدلَّة المتكلّمين للرَّدّ عَلَى الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك. ومن المندوبة: تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والرّبط وغير ذلك. ومن المباح: التّبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك. والحرام والمكروه ظاهران، وقد أوضحت المسألة بأدلَّتها المبسوطة في (تهذيب الأسماء واللُّغات) فإذا عرف ما ذكرته علم أنَّ الحديث من العامّ المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيّد ما قلناه قول عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في التَّراويح: نعمت البدعة، ولا يمنع من كون الحديث عامًّا مخصوصًا قوله: (كُلُّ بِدْعَةٍ) مؤكّدًا بـ كلّ، بل يدخله التَّخصيص مع ذلك كقوله تعالى: {تُدَمّرُ كُلَّ شَىءٍ} [الأحقاف، ءاية 25] اهـ
وقال النووي أيضا "في شرحه على صحيح مسلم" (16/226-227) : قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا...) إلى ءاخره. فيه: الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: "فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس". وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير والفاتح لباب هذا الإحسان. وفي هذا الحديث: تخصيص قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة. اهـ
5-قال الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في الفتح (ج4/298) : قوله قال عمر: "نعم البدعة" في بعض الروايات "نعمت البدعة" بزيادة التاء، والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة. انتهى
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، شرح صحيح البخاري، المجلد الثاني، كِتَاب الْجُمُعَةِ، باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ:" وكل ما لم يكن في زمنه- صلى الله عليه وسلم - يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا ومنها ما يكون بخلاف ذلك "اهـ.

المذهب الحنبلي:
قال الشيخ شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي في كتابه "المطلع على أبواب المقنع" (ص334) من كتاب الطلاق: "والبدعة مما عُمل على غير مثال سابق، والبدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلالة، والبدعة منقسمة بانقسام أحكام التكليف الخمسة"اهـ.