حديث لا تشد الرحال وفهم الصحابة رضي الله عنهم

حديث لا تشد الرحال وفهم الصحابة رضي الله عنهم
الصحابة رضوان الله عليهم، هم من تلقوا علوم الشريعة عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهم من نقل لنا شرائع الدين، ولذلك فهم ولا شك أعلم منا جميعا بمقاصد الشريعة الغراء.
فكيف كان تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع حديث " لا تشد الرحال "،وما هو فهمهم له؟
هل فهموا منه أن النهي الوارد فيه نهي مطلق؟
أم فهموا منه التخصيص؟
أم فهموا منه أنه مقصود به بيان لأفضلية المساجد الثلاث؟
كيف كان تعامل الصحابة رضوان الله عليهم مع قبر نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم؟

بالطبع لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكن فيهم ذووا أفهام فاسدة، ولم يكن فيهم من ينتقص قدر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فلن تجد منهم أخي القارئ من يحرم زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو شد الرحال لها، ولكن ستجد فيهم الفطرة السليمة والحب الصادق والفهم الصائب.
[1] قد صح عن قتادة أن عمر بن الخطاب قال لكعب [1] :
[ألا تتحول إلى المدينة، فيها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبره. قال كعب: إني وجدت في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله من أرضه، وبها كنزه من خلقه.] اهـ
فمذهب عمر بن الخطاب وقتادة شد الرحال إلى زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
[2] ففي تاريخ دمشق لابن عساكر (7 / 137) والغساني في أخباره (1 / 45 -46) برقم (75) [أن بلالا - مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه النبي صلى الله علي وسلم وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال فانتبه حزينا وجلا خائفا فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه وأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: يا بلال نشتهي نسمع آذانك الذي كنت تؤذنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر، ففعل، فعلا سطح المسجد فوقف موقفه الذي كان يقف فيه فلما أن قال: الله أكبر الله أكبر ارتجت المدينة فلما أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، زاد تعاجيجها فلما أن قال: أشهد أن محمدا رسول الله خرج العواتق من خدورهن فقالوا: أبعث رسول الله، فما رئي يوم أكثر باكيا ولا باكية بعد رسول الله من ذلك اليوم.] اهـ
وهذه الحادثة قال عنها الشوكاني في نيل الأوطار (5 / 180) : وقد رويت زيارته صلى الله عليه وآله وسلم عن جماعة من الصحابة منهم بلال عند ابن عساكر بسند جيد وحسنه غير واحد من العلماء وإن قال عنها الذهبي في السير (1 / 358) إسناده لين. اهـ

وقد ذكر هذه القصة دون نكير الحافظ المزي صاحب ابن تيمية في كتابه تهذيب الكمال، والإمام النووي في تهذيب الأسماء وغيرهما. [2]
قلت:
وقد جود إسناد هذه الرواية: الإمام السبكي في شفاء السقام (صـ 55) وقال: (روينا ذلك بإسناد جيد إليه وهو نص في الباب) اهـ.
وقال في (صـ 57) : [وليس اعتمادنا في الاستدلال بهذا الحديث على رؤيا المنام فقط، بل على فعل بلال، وهو صحابي، لاسيما في خلافة عمر رضي الله عنه والصحابة متوافرون، ولا يخفى عنهم هذه القصة، ومنام بلال ورؤياه للنبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتمثل به الشيطان، وليس فيه ما يخالف ما ثبت في اليقظة فيتأكد به فعل الصحابي.
وجود إسنادها أيضا الإمام ابن حجر الهيتمي في الجوهر المنظم (صـ 65) .
وانظر رحمك الله إلى فهم وفقه الصحابة رضي الله عنهم وقارن بينه وبين المتعالمين والمتفيهقين وفهمهم الفاسد للحديث الشريف.
[3] فقد روى عن عمر بن شبه في " تاريخ المدينة " (1/42) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا صخر بن جويرية، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي يقول:
[لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلىَّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، ولو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل.] اهـ
قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح (الفتح: 3 /69) .
وروى ابن أبي شيبة نحوه في المصنف (2/373) .
[4] وروى عبد الرازق في المصنف (5 / 133) عن الثوري، عن يعقوب بن مجمع بن جارية، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب أنه قال:
[لو كان مسجد قباء في أفق من الآفاق، ضربنا إليه أكباد المطي.] اهـ
إسناده حسن، فإن يعقوب بن مجمع وثقة ابن حبان وروى عنه إمام كالثوري.
وقال الحافظ الذهبي في الكاشف (2/395) :وثق ومجمع بن جارية صحابي.
ولهذا الأثر طريق آخر أخرجه عمر بن شبه في أخبار المدينة (1 / 49) فيه أسامة بن زيد بن أسلم وهو وإن ضعف من قبل حفظه، فهو يصلح في المتابعات والشواهد.

وعمر رضي الله عنه من رواة حديث " لا تشد الرحال " فلو علم أن النهي في الحديث للتحريم لما قال مقولته في مسجد قباء.
فتدبر تستفد.
[5] وأخرج الفاكهي في تاريخ مكة (رقم 2596) بإسناد لا بأس به حدثنا أحمد بن صالح قال: ثنا محمد بن عبد الله، عن صخر بن جويرية، عن عائشة بنت سعد قالت:
[كان سعد رضي الله عنه يقول: لو كنت من أهل مكة ما أخطأني جمعة لا أصلي فيه _ يعني مسجد الخيف _ ولو يعلم الناس ما فيه لضربوا إليه أكباد الإبل، لأن أصلي في مسجد الخيف ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين فأصلي فيه.] اهـ
وغير خفي أن سعد بن أبي وقاص كان من أكابر الصحابة، ولو علم أن النهي في الحديث للتحريم لعلم أن كلامه فيه ردٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[6] وروى أحمد في المسند (6/397) ، الطبراني في المعجم الكبير (2 / 310) :
من حديث مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي بصرة الغفاري قال: لقيت أبا هريرة وهو يسير إلى مسجد الطور ليصلي فيه قال:
[فقلت له: لو أدركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت قال: فقال ولم؟ قال: فقلت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، المسجد الأقصى، ومسجدي.] اهـ
فأبو هريرة لقي أبا بصرة رضي الله عنهما: وكان أبو هريرة يسير إلى مسجد الطور، ولما أعلمه أبو بصرة بنص الحديث لم يرجع أبو هريرة. ولو كان أبو هريرة قد فهم من الحديث التحريم لرجع ولكنه لم يفعل، بل ولم يخرج أصلاً لأنه من رواة هذا الحديث، فدل فعله على أن النهي الذي في الحديث لا يفيد التحريم عند أبي هريرة رضي الله عنه.
فأي حجةٍ، وأي برهان، وأي دليلٍ، يطلب بعد فهم أكابر الصحابة رضي الله عنهم للحديث؟

وحتى من فهم من الصحابة من الحديث الشريف النهي عن شد الرحال فقد فهم أن المقصود منه النهي عن شد الرحال إلى مسجد غير المساجد الثلاثة، ولم يتعدى فهمه للقبور بصفة عامة أو قبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة.
ومما سبق يعلم أنه ليس من منطوق أو مفهوم حديث " لا تشد الرحال... الحديث " نهي عن شد الرحال لزيارة القبر النبوي الشريف، والله أعلم. [3]
****************
هوامش
[1] من كتاب أخطاء ابن تيمية في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته للسيد الشريف دكتور محمود السيد صبيح (صـ 189) . قول عمر لكعب أخرجه معمر بن راشد في جامعه (11 / 251) قال أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. وقد أخرجه البغوي في التفسير (3 / 251) بإسناده عن عبد الرزاق به والحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق (1 / 121) بإسناده عن عبد الرزاق به. وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن قتادة لم يلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهو صحيح عند قتادة، ومدار الرواية عليه. إلا أن لهذه القصة شواهد وقد رويت موصولة من طريقين:
1- طريق علقمة بن وقاص الليثي. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (1 / 121) بسند حسن.
2- طريق موسى بن طريف أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (1 / 121) فإنه وليس في إسناده متهم بوضع أو راو شديد الضعف لكن موسى بن طريف ضعيف ولم يلق عمر. فبمجموع تلك الطرق ترتقي هذه الرواية إلى الصحة. والله أعلم.
قال الطبري في تفسيره (17 / 46) : قال أبو قلابة: وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يا كعب ألا تحول إلى المدينة فإنها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره فقال له كعب: يا أمير المؤمنين إني أجد في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله في أرضه وبها كنزه من عباده.
[2] المرجع السابق (صـ 266) .
[3] (3، 4، 5، 6) من كتاب رفع المنارة للدكتور محمود سعيد ممدوح (صـ 110 - 112) مع زيادة يسيرة.

المصدر : منتدى موقع د. محمود صبيح
www.msobieh.com